الذي يوسوس في صدور الناس.
أما الوسوسة فهي أمر معروف ، وذلك بما (١) يلقى من الكلمات التي تشغل القلب وتحير في أمر الدين ، بما لا يعرف الذي يلقى إليه المخرج من ذلك ، وعلى ذلك أمر أهل الأهواء ، وأصناف الكفرة ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) [الأنعام : ١١٢] ، وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) [الأنعام : ١٢١] ، وأما شياطين الجن ، فهو أمر ظاهر عند جميع أهل الأديان ومن آمن بالرسل عليهمالسلام ، لكن الدهرية ومنكري الرسل يقولون : ليس في الجن شياطين ؛ وإنما هو أمر يخوّف به مدعو الرسالة ؛ ليلزموا الخلق الاستماع إليهم في تعرف الجهل وما عندهم في دعواهم من العلوم والمعارف ، وهذا لسفههم قالوا ، ولو أنهم تأملوا في ذلك ، لعرفوا أنهم على غير بحث عما ألزمهم ضرورة العقل الطلب ، ودعتهم إلى البحث عنه ما مستهم من الحاجة ، وهي الخواطر التي تقع في القلوب ، والخيالات التي تعرض في الصدور ، منها [ما] إذا صورت وجدت قباحا ، ومنها ما إذا صورت وجدت حسانا ، ولا يجوز وقوع أمر أو كون شيء بعد أن لم يكن من قبل نفسه ؛ للإحالة في أن يصير لا شيء بنفسه شيئا قبيحا أو حسنا بلا مدبر ، وقد علم جميع الإنسان بالذي ذكرت من الابتلاء به مما يعلم أنه لم يكن من نفسه معنى يحدث له ذلك ؛ فثبت أن قد كانت الضرورة تلزم البحث عن ذلك.
ثم لا يعلم من حيث طلب الأبدان الموجبة لها ولا في العقول ـ أيضا ـ دركها ؛ فيجب بها أمران منعهم عن العلم بهما القنوع بالجهل وحب الراحة :
أحدهما : القول بالصانع ، ودخول العالم تحت تدبير حكيم عليم قدير.
والآخر : القول بالرسالة تأتيهم من عند علام الغيوب ، وإذا كان ذلك بحيث لا يبلغه علم البشر فيعرف حقيقة ذلك ؛ فيعلم عند النظر والبحث أمران عظيمان :
أحدهما : الرسل بما معهم من المعجزات ، فيقولون بهم ، وبالتوحيد بما رأوا من الآيات الصدق (٢) ؛ إذ قد علموا أن في الأخبار صدقا ، لو لا ذلك لكانوا لا يدعون شيئا ؛ إذ هو خبر [له](٣).
والثاني : يلزمهم بما يعاينوا من مرجح الأمر من غير الحكماء أنها تقع متفاوتة مضطربة ، والعالم بما خرج متسقا على الحكمة والمصلحة ؛ فعلموا أنه كان بمدبر حكيم
__________________
(١) في أ : مما.
(٢) في ب : الصرف.
(٣) سقط في ب.