بالعتو ، ومعلوم أنها لا تعتو ، ولكن المراد منه ، أي : عتا أهلها عن أمر ربهم ، وقد يجوز أن يكنى بالمكان عن الأهل ، كما قال في آية أخرى (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) [يوسف : ٨٢] [يعني : واسأل أهل القرية](١) وفي هذا دلالة أن ما خرج مخرج الكناية في الحقيقة ، لم يكن كذبا ، وإن كان في ظاهره يرى أنه كذب ؛ ألا ترى إلى قوله : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) [ص : ٢٣] ، ومعلوم أنه لم يكن هناك نعجة ، ولكن كناية عن النساء ، فخرج على الصدق في الحقيقة ؛ كأنه قال : إن هذا أخي ، لو كان له تسع وتسعون امرأة ، فكذلك الأول والله أعلم.
والعتو : النهاية في الاستكبار ؛ ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) [الفرقان : ٢١].
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) : له أوجه من التأويل : أحدها : يقول : (فَحاسَبْناها) ، أي : بلغوا في الكفر والعتو والاستكبار مبلغا صاروا من أهل الحساب الشديد والعذاب المنكر.
أو يجعل ما ذكر الله تعالى من نزول النقمة بالأمم الماضية ؛ لعتوهم واستكبارهم حسابا شديدا لهذه الأمة ؛ ليتذكروا ويتعظوا.
أو يكون معناه (فَحاسَبْناها) أي : سنحاسب حسابا شديدا في الآخرة ، كما [كان معنى](٢) قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) [المائدة : ١١٦] بمعنى : وإذ يقول الله ، فكذلك الأول ، والله أعلم.
ووجه نزول هذه الآيات (٣) : أن يكون له معنيان :
أحدهما : تخويف أمة محمد صلىاللهعليهوسلم والكفرة من أهل مكة بما نزل بالأمم الخالية حين تركوا اتباع رسلهم والإيمان بهم ، واستكبروا في أنفسهم ، وعتوا لكي ينتهي أهل قريته ـ عليهالسلام ـ عما هم فيه من الكفر والعتو ، ويحظروا الوقوع فيه في حادث الأوقات.
ويحتمل أن يكون هذا تسكينا لقلب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وتهوينا عليه ما يلقى من كفر (٤) قومه وعصيانهم وعتوهم ، وليعلم ما لقيت الرسل المتقدمة من أممهم حتى بلغ كفرهم واستكبارهم المبلغ الذي وقع اليأس منه عن إيمانهم ، حتى أنزل الله تعالى بهم ما أنزل من
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) في ب : قال في.
(٣) في ب : الآية.
(٤) في أ : أمر.