خمر الآخرة لا فيها غول ، ولا هم ينزفون ، ما أروع هذا التعبير وما أبلغه!! خمر الآخرة ليس فيها فساد ، ولا هلاك للنفس ، وللعقل ، وللمال ، ولا للشخصية ، أى : لا فيها غول ، وليس هم لأجلها ينزفون ، أى : لا تذهب الخمر عقولهم ، ولعل إفراد هذا بالذكر مع أنه داخل في عموم قول : لا فيها غول دليل على أن فساده كثير ، وخطر ضياع العقل كبير ، حتى كأنه جنس يستحق الذكر برأسه.
وعندهم زوجاتهم قاصرات الطرف ، قد قصرن أبصارهن عليهم فلا يمددن طرفا إلى غيرهم ، فهن عرب ـ متحببات إلى أزواجهن ـ أتراب ، عين ، واسعات العيون والأحداق ومع هذا فهن قاصرات الطرف ، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ، كأنهن البيض المكنون في البياض والصفاء ، والحفظ والنقاء.
يطاف عليهم بخمر كأنها النهر فيشربون ويتحادثون كما هي عادة المجتمعين للشرب.
فأقبل بعضهم على بعض يتجاذبون أطراف الحديث يتساءلون عما جرى لهم في الدنيا ، وما أحلى الذكرى عند فراغ البال ، ورفاهية الحال.
ماذا قالوا؟ قال قائل منهم في أثناء حديثه : إنى كان لي قرين في الدنيا يقول موبخا ومؤنبا لي على ما كنت عليه من الإيمان والتصديق بالبعث يقول : أإنك لمن المصدقين بيوم القيامة؟ أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما نبعث؟ أإنا لمدينون ، أى : لمبعوثون مجازون؟ وهكذا يقول الكفار! قال ذلك القائل الذي كان له قرين يعترض عليه لأنه آمن قال لجلسائه : هل أنتم مطلعون (١) على أهل النار لأريكم هذا القرين ومآله ، فاطلع على أهل النار من كوة أو على كيفية ـ الله أعلم بها ـ فرآه ـ أى : القرين ـ في وسط الجحيم يتلظى بالنار المسعرة التي وقودها الناس والحجارة ، وبئس القرار.
وماذا قال له؟ قال لقرينه : تالله إن كدت وقاربت لتردينى وتهلكني بما كنت تفعله معى ، ولو لا نعمة ربي وتوفيقه وهدايته لكنت من المحضرين للعذاب كما أحضرت أنت وأحزابك.
أفما نحن بميتين إلا بموتتنا الأولى (٢) وهذا رجوع إلى محاورة جلسائه ابتهاجا بما منحه
__________________
١ ـ الاستفهام هنا مراد به العرض أو الأمر ، أى : اطلعوا.
٢ ـ الاستفهام للتقرير فيه معنى التعجب ، والفاء فيه للعطف ، والمعطوف عليه تقديره : أنحن مخلدون؟