المادية الناسوتية هو المتنزل منها إلى هذا العالم الجسماني بالصور اللفظية والكتبية ، فما يرى سواد العين إلّا سواد المداد بالألحاظ ولا تسمع الأذن إلا الأصوات والألفاظ ، وأنّى لهما الدخول في حريم هذه المعاني والاستقصاء عما لها من المباني من العالي والداني.
وأما العقل الإنساني فقد ابتلى بالتقيّد عن التجرّد ، واحتجب عن مشاهدة الأنوار الملكوتية بالحجب الناسوتية ، فوقع من القربة في الغربة ، مع أنّ كل شيء لا يدرك ما فوق عالمه ، ولا يتجاوز عن معالمه ، وكيف يدرك العقل الجزئي الحقائق الكلية إلّا بعد الوصل الكلي ، بقطع جبل الإنيّة ، والتجرد عن العلايق الجسمانية والخروج من عرف قدره لا يتعدّى طوره.
ولذا لو أنزل الله هذا القرآن على ما هو عليه من قدس ملكوته وعز جبروته (١) ، ولذا أتى بما يشار به إلى القريب ، تنبيها إلى أنه بعد باق على علوه ورفعته على جبل عظيم من الجبال التي هي مظاهر العظمة في هذا العالم الجسماني ، أو على جبلة من جبلات الإنية الواقعة في صقع النفوس (لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) لعدم صبره وتحمله وثباته ، ولذا أنزله الله تبارك وتعالى بكسوة الألفاظ والحروف التي هي أمثلة وأظلة للحقائق الكلية (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٢) ، فيصلون بالألفاظ إلى المعاني ، ومن المعاني إلى المباني ومن المباني إلى النور الشعشعاني ، أعني معرفة البشر الثاني.
__________________
(١) مقتبس من الآية (٢١) من سورة الحشر : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ).
(٢) الحشر : ٢١
.