وبالجملة التوسط في الفيوض التكوينية والتشريعية غير مستنكر في الشريعة بل ربّما توجبه الحكمة الربانية ، وعليه جرت السنّة الالهيّة في التشريع ، فأرسل أنبياء وجعل لهم أوصياء وخلفاء ، وجعل بين الناس وبين القرى المباركة قرى ظاهرة في كينونات الأشياء أيضا فخلق لكلّ شيء شيئا فأضاء بالشمس ، وأنار بالقمر ، وسخّن بالنار ، وبرد بالماء ، ووكل بكلّ شيء ملائكة يحفظونه بأمر الله ، بل وكل بالشئون الأربعة الّتي هي أركان عرش التكوين الملئكة الاربعة المقربين ، كما ورد في كثير من الأخبار والأدعية ، ووكل بخلق المولود وتصويره ملكين خلّاقين يقتحمان رحم المرئة ، فيقولان يا ربّ نخلقه ذكرا أم أنثى ، سعيدا أم شقيا ، مليحا أم قبيحا ، ووكل بالامانة وقبض الأرواح ملئكة هم أعوان للملك الجليل عزرائيل بإذن الرب الجليل ، ولذا نسب القبض والتوفّى في صريح القرآن إليه وإلى كلّ منهما ، وقد أجاب مولينا أمير المؤمنين عليهالسلام عن الزنديق المدعى للتناقض في آي من القرآن كقوله : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) (١) (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (٢) ، (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) (٣) ، حيث إنّه تعالى يجعل الفعل مرّة لنفسه ، ومرّة لملك الموت ، ومرّة للملائكة بقوله عليهالسلام : ان الله أجل وأعظم من ان يتولى ذلك بنفسه وفعل رسله وملئكة فعله لأنهم بامره يعملون فاصطفى جلّ ذكره من الملئكة رسلا وسفرة بينه وبين خلقه وهم الذين قال الله فيهم : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) (٤) فمن كان من أهل الطاعة تولّت قبض روحه ملئكة الرحمة ، ومن كان من أهل المعصية تولّى قبض روحه ملائكة النعمة.
__________________
(١) السجدة : ١٤.
(٢) الزمر : ٤٢.
(٣) النحل : ٢٨.
(٤) الحجّ : ٧٥.