الوجه الذي قرر ، فترتب كل من هذه المراتب على ما قبله حتم لازم لزوما ذاتيا واجبا ، ألا ترى أنه ربما يقع صورة الشيء في النفس ابتداء من غير إرادة واختيار وصنع ، ولا بواسطة الانتقال من المحسوس إليه ، فإذا حصلت وعرف كونه مطلوبا ملائما مال إليه ، وتحركت القوى المحرّكة القريبة إلى الطلب فيحصل الفعل بعد هذه المراتب لا محالة ، سواء حصل الشيطان أم لم يحصل ، فلا يبقى فعل يستند إليه ، بل هذه المراتب إن اتفق حصولهما في الطرف النافع فإلهام ، أو الضار فوسوسة ، وهو مجرد التسمية ، ومبدء الفعل ما عرفت (١).
وربما يجاب عنه بأنه حقّ وصدق ولكن قد يكون الإنسان غافلا فيذكره الشيطان ، فيترتب عليه الميل ثم الفعل ، فليس من الشيطان إلا ذلك التذكير ، وهو المراد بقوله :
(وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) (٢). (٣)
أقول : وكأن هذا القائل قد غفل أن تغافل عن المطاردة الواقعة بين الملائكة والشياطين ، فإنّ الإنسان وإن كان فاعلا مختارا في جميع شؤونه ، إلا أنه إذا بدا له أمر من الخيرات أو الشرور ، وكان متمكنا من اختيار كل منهما على الآخر بقصده وإرادته يقع التجاذب والمطاردة بين حزب الله وهم الملائكة الموكّلون على يمين القلب وهم جنود العقل وبين الشياطين وهم الموكّلون على يسار القلب وهم جنود الجهل.
وجملة الكلام في المقام مع الإشارة إلى أسباب الوسوسة والإلهام أن الإنسان مجبول في بدو خلقته وأصل طبيعته على حب الكمال ، واقتناء الخيرات
__________________
(١) مفاتيح الغيب : ج ١ / ٨٦.
(٢) مفاتيح الغيب : ج ١ / ٨٧.
(٣) سورة إبراهيم : ٢٢.