التمنيّ كالمبدأ للكذب ، فعبّر به عنه ، وعليه فسّر مجاهد (إِلَّا أَمانِيَ) إلا كذبا ، ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه : «ما تعنيّت ولا تمنّيت منذ أسلمت» (١). وقوله تعالى : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)(٢). التمنّي هو التلاوة ، قال الشاعر يرثي عثمان (٣) : [من الطويل]
تمنّى كتاب الله أول ليلة |
|
وآخرها لاقى حمام المقادر |
وقد ذكروا في التفسير والأسباب عند هذه الآية ما لا ينبغي ولا يجوز اعتقاده ، وقال الراغب (٤) : قد تقدّم أنّ التمنّي كما يكون في تخمين وظنّ فقد يكون عن رويّة وبناء على أصل. ولما كان النبيّ صلىاللهعليهوسلم كثيرا ما يبادر إلى ما نزل به الروح الأمين على قلبه حتى قيل له : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)(٥) سمّى تلاوته على ذلك تمنّيا ، ونبّه أنّ للشيطان تسلّطا على مثله في أمنيّته ، وذلك من حيث بيّن أنّ العجلة من الشيطان ، انتهى. قوله : إنّ للشيطان تسلّطا .. إلى آخره كلام صعب لا ينبغي ولا يجوز قوله ، ولذلك ذكرته منبهة عليه. وأحسن ما قيل في ذلك أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم لمّا تلي قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى)(٦) قال : «الشياطين تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهن لترجى» (٧). فلما سمع قومه ذلك من الشيطان ، وسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم في آخرها سجدوا معه ظنّا منهم أنه هو القائل لذلك. ولا غرو في ذلك فلله تعالى أن يمتحن عباده بضروب من المحن. وأمّا ما يروى أنّه هو عليه الصلاة والسّلام القائل لذلك ، من وسوسة على سبيل الغلط فحاشا لله ، بل الشيطان هو القائل المسمع للناس. فلما عرف النبيّ صلىاللهعليهوسلم بذلك أكذبه وعرّف الناس أنّ الشيطان هو الذي قال ذلك فتنة واختبارا ، ليزداد المؤمنون إيمانا والمنافقون شكا وامتحانا.
__________________
(١) النهاية : ٤ / ٣٦٧.
(٢) ٥٢ / الحج : ٢٢.
(٣) البيت مذكور في النهاية : ٤ / ٣٦٧ ، واللسان ـ مادة مني ، وفيه : أول ليله .. وآخره.
(٤) المفردات : ٤٧٦.
(٥) ١١٤ / طه : ٢٠.
(٦) ١٩ و ٢٠ / النجم : ٥٣.
(٧) النهاية : ٣ / ٣٦٤ ، وفيها أن الغرانيق هاهنا الأصنام ، وهي في الأصل الذكور من طير الماء.