القرآن كثير ، فإن الله تعالى قال فيما أخبر به عن داود وسليمان عليهماالسلام : (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النّمل : ١٦] ولم يؤتيا سماء ولا أرضا ، ولا شمسا ولا قمرا ولا جنة ، ولا نارا ، ولا ملائكة ، ولا عرشا ، ولا غير ذلك ، وإنما أراد أوتينا من كل شيء ينبغي لمثلنا. وكذلك قوله في قصة بلقيس : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النّمل : ٢٣] ومعلوم أنها لم تؤت النبوة ، ولا تسخير طير ، إلى غير ذلك ؛ إنما أراد به الخصوص دون العموم ، لأنها ما دمرت هودا ، ولا السماء ، ولا الملائكة ، ولا الجبال ، إلى غير ذلك.
قال الشريف الأجل جمال الإسلام : ووقع لي جواب أخصر من هذا وأجود إن شاء الله وهو : أن يقول : الآية حجة عليكم ، وأن القرآن ليس بمخلوق ، وذلك أنه سبحانه وتعالى أفرد الخالق من المخلوق ، فسمّى نفسه خالقا ، وسمّى كل شيء دونه مخلوقا ، فالخالق بجميع صفات الذات ، غير مخلوق ، لأن الاسم هو المسمى ، على ما قررنا ، وهذا صحيح ، لأن الخالق هو الله العالم ، القادر ، المريد ، المتكلم ، وكلامه هو القرآن ، فدلّ على أنه غير مخلوق ، ولا داخل في الأشياء المخلوقة ، والذي يفهم من ذلك ؛ فإن كل عاقل يعلم أنه يصنع كل شيء غير ذاته بصفاتها من قدرته ، وحياته ، وعلمه ، وكلامه. وكذلك إذا قيل [آخذ] الملك اليوم كل أحد ، وصغر كل صفة وحقرها ومعلوم [أن ذاته ما دخلت] في المفعولين ولا دخلت صفاته في التحقير والتصغير فكذلك قوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرّعد : ١٦] يعني غير ذاته ، وذاته قديمة غير مخلوقة بجميع صفاتها ، فصحّ أن الآية حجة عليهم لا لهم.
فإن احتجّوا بقوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) [الأنبياء : ٢] فوصفه بالحدث والحدث هو الخلق. الجواب من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الآية حجة عليهم ، لأنها تدل على أن من الذكر ما ليس بمحدث ، لأنه لم يقل ما يأتيهم من ذكر إلا كان محدثا. فثبت أن من الذكر ما هو قديم ليس بمحدث ، فيجب أن يكون القرآن ؛ لأن الإجماع قد وقع على أن كل ذكر غيره مخلوق ، فلم يبق ذكر غير مخلوق. غير كلامه ، سبحانه وتعالى.
الجواب الثاني : أن الذكر هاهنا يراد به وعظ الرسول صلىاللهعليهوسلم لهم وتوعده لهم وتخويفه ، لأن وعظ الرسل عليهمالسلام يسمى ذكرا. يدل عليه قوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١)) [الغاشية : ٢١] ويقال : فلان في مجلس الذكر ، يعني في مجلس الوعظ. الذي يحقق ذلك ؛ أن قريشا لم تلعب عند سماع القرآن ، ولكنها