بذلك ، ولم يرد أنهم خلقوهم. وكذلك قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [إبراهيم : ٣٠] يعني سموا. وكذلك قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣)) [المائدة : ١٠٣] وفي القرآن مثل هذا كثير.
الجواب الثاني : أنه أراد : إنا جعلنا قراءته وتلاوته بلسان العرب ، وأفهمنا أحكامه. والمراد به باللسان العربي ، وتكون الفائدة في ذلك الفرق بينه وبين التوراة والإنجيل ، لأنه جعل تلاوة الكتابين المذكورين وإفهام أحكامهما باللسان العبراني والسرياني ، وجعل تلاوة هذا الكتاب وإفهام أحكامه والمراد به بلسان العرب ، ولو عرفوا الفرق بين التلاوة والمتلو لم يموهوا بمثل هذا التمويه.
والجواب الثالث : أن الجعل إذا عدي إلى مفعول واحد كان ظاهره الخلق ، وإذا عدي إلى مفعولين كان ظاهره الحكم والتسمية ، في أكثر الاستعمال. ولذلك لا يجوز أن يقول القائل : جعلت النجم والرجل ، ويسكت حتى يصله بقوله : جعلت النجم هاديا ودليلا ، وجعلت الرجل صديقا وصاحبا. فلما قال الله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الزّخرف : ٣] تعدى إلى مفعولين ، فيكون بمعنى الحكم والتسمية. فإن احتجوا بقوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [النّحل : ١٠١] وقالوا : ما يغير ويبدل فهو مخلوق لا محالة ، قلنا : هذا جهل منكم أيضا ، وذلك أن التبديل والنسخ إنما يكون ويتصور في الرسم من خط أو تلاوة ؛ أو في حكم ، فيكون تقدير الكلام : وإذا بدلنا حكم آية أو تلاوة آية ، دون المتلو القديم الذي لا يتصور عليه تبديل ولا تغيير ، وقد بيّن ذلك سبحانه وتعالى وأخبر أن كلامه القديم لا يغير ولا يبدل.
دليل الأول : قوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [النّحل : ١٠١] يعني حكم آية أو تلاوتها.
ودليل الثاني : قوله تعالى : (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) [الأنعام : ٣٤] وقوله تعالى : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) [الأنعام : ١١٥] فأخبر تعالى أن التبديل يتصور في أحكام كلامه وتلاوة كلامه ، دون كلامه القديم الذي هو صفة من صفات ذاته ، ولو حققوا الفرق بين التلاوة والمتلو سلموا وجميع من وافقهم من الجهال الذين سلموا لهم وفق مذهبهم من خلق القرآن معنى ، ومنعوه نطقا ، نعوذ بالله من الجهل. وسنبين هذا الأمر إن شاء الله على الاستيفاء بالكمال ، في مسألة الفرق بين التلاوة والمتلو ، والقراءة والمقروء.