فإن احتجوا بقوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الإسراء : ٨٦] وقالوا : ما جاز عليه الذهاب والعدم فإنه مخلوق.
فالجواب عن هذا السؤال مثل الجواب المتقدم ؛ لأن الذهاب والعدم إنما يكون في الحفظ والرسم ، دون المحفوظ الذي هو كلام الله تعالى. ويدل على هذا : أن ابن مسعود رضي الله عنه لما قال : استكثروا من قراءة القرآن قبل أن يرفع. فقيل له : كيف يرفع وقد حفظناه في صدورنا وأثبتناه في مصاحفنا؟ فقال : يسرى عليه فيذهب حفظه من الصدور ، ورسمه من المصاحف. وهذا صحيح ، لأن حفظ المخلوق مخلوق مثله ، وحفظه مخلوق مثله ، فيتصور عليه الذهاب والعدم بالنسيان والمحو. وأما المحفوظ والمكتوب (١) الذي هو كلامه القديم ، فلا يتصور عليه ذلك. فاعلم ذلك وتحققه.
فإن احتجوا بقول النبي صلىاللهعليهوسلم : «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم» قالوا : وما جاز أن ينتقل ويتحول ويسافر به فهو مخلوق. قلنا : كم هذا التمويه الذي تشبهون به على العوام وجهّال الناس ، لأن النبي صلىاللهعليهوسلم إنما أراد بهذا الكلام حمل المصحف الذي فيه كلام الله مكتوب ، ولم يرد بذلك نفس كلامه القديم الذي هو صفة من صفات ذاته ، وقد قرنه صلىاللهعليهوسلم بما يدل على أن المراد به المصحف دون غيره ؛ ألا تراه قال : «مخافة أن تناله أيديهم» ومعلوم أن الذي تناله أيديهم إنما هو المصحف دون غيره ، وقد بيّن عليهالسلام ذلك في حديث آخر ، وهو قوله صلىاللهعليهوسلم لبعض أصحابه : «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» يريد بذلك الصحف التي يكتب فيها القرآن ، دون نفس القرآن الذي هو كلام الله تعالى ، لأنه صفة من صفات ذاته ، ولا يتصور على صفات ذاته اللمس ونيل الأذى.
فإن قالوا : أجمعنا على أن القرآن سور ، والسور آيات ، والآيات كلمات ، والكلمات حروف وأصوات ، وجميع ذلك يدل على كونه محدثا مخلوقا ؛ لأن السور معدودة محسوبة ؛ لها أول وآخر ، وكذلك الآيات والحروف ، وما دخله الحصر والعد وكان له أول وآخر فهو مخلوق ، وهذه الشبهة التي سخمت وجوه من وافقهم في
__________________
(١) وصف القرآن القائم بالله سبحانه بالمكتوب ، والمحفوظ والمتلو من قبيل وصف المدلول بوصف الدال مجازا كما حققه التفتازاني في شرح المقاصد على ما سبق (ز).