مقالتهم هذه من أهل السنة الجهال بطرق التحقيق ؛ حيث سلموا لهم مع زعمهم أنه كلامه ليس بمخلوق ، ما قرروه من هذه الشبهة ، وقالوا مثل قولهم : إن كلامه حروف وأصوات ، فإن لله وإنا إليه راجعون (١).
والجواب عن هذه الشبهة : أن يقال لهم : أما ما ذكرتم من الحصر ، والتحديد والتبعيض ، والحروف والأصوات ، فجميع ذلك راجع إلى تلاوة المخلوقين دون كلام الله تعالى الذي هو صفة من صفات ذاته ؛ لأن جميع ما ذكرتم يحتاج إلى مخارج من لسان ، وشفتين ، وحلق ، والله يتعالى ويتنزه عن جميع ذلك. بل نقول إن كلامه صفة له قديمة لا يحتاج فيه إلى أداة من صوت. أو حرف أو مخرج. يتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وكذلك ما ذكرتم من الحصر ، والعد ، والأول ، والآخر ، إنما ذلك راجع إلى تلاوة المخلوقين لكلامه وكتبتهم لكلامه دون كلامه الذي هو صفة ، وقد بيّن ذلك سبحانه وتعالى بأظهر بيان لمن كان له فهم صحيح ، لأنه تعالى قال : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩)) [الكهف : ١٠٩] وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧)) [لقمان : ٢٧] ومعلوم أن الكاتب منا يكتب عدة مصاحف بمحبرة واحدة ، ويتلو التالي منا عدة ختمات ، فالمحصور والمعدود المحدود الذي يتصف بأول وآخر صفاتنا من تلاوتنا لكلامه ،
__________________
(١) قال السعد في شرح المقاصد : (انتظم من المقدمات القطعية والمشهورة قياسان ينتج أحدهما قدم كلام الله تعالى ، وهو أنه من صفات الله وهي قديمة ، والآخر حدوثه ، وهو أنه من جنس الأصوات ، وهي حادثة ، فاضطر القوم إلى القدح في أحد القياسين ومنع بعض المقدمات ضرورة امتناع حقية النقيضين ، فمنعت المعتزلة كونه من صفات الله تعالى ، والكرامية كون كل صفة قديمة ، والأشاعرة كونه من جنس الأصوات والحروف ، والحشوية كون المنتظم من الحروف حادثا ، ولا عبرة بكلام الكرامية والحشوية ، فبقي النزاع بيننا وبين المعتزلة ، وهو في التحقيق عائد إلى إثبات الكلام النفسي ونفيه ، وأن القرآن هو أو هذا المؤلف من الحروف الذي هو كلام حسي أولا. فلا نزاع لنا في حدوث الكلام الحسي ولا لهم في قدم النفسي لو ثبت) ثم قال السعد : (وعلى البحث والمناظرة في ثبوت الكلام النفسي وكونه هو القرآن ينبغي أن يحمل ما نقل من مناظرة أبي حنيفة وأبي يوسف ستة أشهر ثم استقر رأيهما على أن من قال بخلق القرآن فهو كافر) وهذا التحقيق هو مفتاح هذا البحث الطويل العريض. وقد أثبت المصنف الكلام النفسي بكل ما جلاه في موضعه ، وحدوث ما سواه مما في الأذهان والألسنة والخطوط جلي واضح عند أرباب العقول فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون (ز).