وهذا كلام لا يقال ، فإن وجاهة عيسى في الدنيا هي الرسالة المؤيدة بالمعجزات البينات (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران : ٤٨ ، ٤٩] فكيف تذكر بجانب هذه الوجاهة قصة الرفع إلى السماء التي يرغمون هذه الآية على إفادتها أو الإشارة إليها؟ وكيف يكون وجيها في الدنيا من غادر الأرض وترك أهلها الذين يحسون وجاهته؟ وهكذا ينتزع القوم من كل عبارة إشارة أو تلميحا ليؤيدوا ما زعموا أنه عقيدة يكفر منكرها؟
النوع الثالث : آيتان قد اختلفت آراء المفسرين في بيان المراد منهما ، وجاء في بعض ما قيل : إنهما تدلان على نزول عيسى وهما :
١ ـ قوله تعالى في سورة النساء : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) [النّساء : ١٥١].
٢ ـ وقوله تعالى في سورة الزخرف : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) [الزّخرف : ٦١].
ما غاب عنا ، وقت أن كتبنا الفتوى ، النظر في هاتين الآيتين وفي درجة دلالتهما على نزول عيسى ، وما غاب عنا ما ذكره المفسرون من الآراء والأفهام المختلفة فيهما ، وما كنا نحسب ـ ونحن بصدد البحث عن دليل قاطع يحكم بالكفر على مخالفه ـ أن أحدا يعرض لهاتين الآيتين وقد رأى فيهما ما رأينا من أقوال المفسرين المختلفة في ذاتها ، والمختلفة في ترجيحها ، فيقول إنهما نصّان قاطعان في نزول عيسى! ولذلك آثرنا إذ ذاك أن نترك الكلام عليهما اكتفاء بظهور درجتهما في الدلالة لكل من يقرأ شيئا من كتب التفسير. ولكنهم أبوا إلا أن يذكروا هاتين الآيتين ويزعموا أنهما تدلان دلالة قاطعة على نزول عيسى ، فلسنا نجد بدا من أن نضع بين يدي القراء خلاصة لآراء المفسرين فيهما. ثم نقفي على ذلك بما نرى ليتبين الحق واضحا :
الآية الأولى : للمفسرين في هذه الآية آراء مختلفة وأشهرها رأيان :
الأول : أن الضمير في (بِهِ) و (مَوْتِهِ) لعيسى. والمعنى : ما من أحد من أهل الكتاب يهوديهم ونصرانيهم إلا ليؤمنن بعيسى قبل أن يموت عيسى. قالوا : أخبرت هذه الآية أن أهل الكتاب سيؤمنون بعيسى قبل موته ، وهم لم يؤمنوا به إلى الآن على الوجه الذي طلب منهم ، فلا بد أن يكون عيسى إلى الآن حيّا ، ولا بد أن يتحقق هذا الإيمان به قبل موته ، وذلك إنما يكون عند نزوله آخر الزمان.