سعيت إليه لألقاه ، ولكني كنت أجهل مقامه ، وإني لأسير في ميدان العتبة الخضراء ، فوجدت شيخا وجيها وقورا ، الشيب ينبثق منه كنور الحق ، يلبس لباس علماء التّرك ، قد التفّ حوله طلبة من سورية ، فوقع في نفسي أنه الشيخ الذي أسعى إليه. فما أن زايل تلاميذه حتى استفسرت من أحدهم : من الشيخ؟ فقال : إنه الشيخ الكوثري ، فأسرعت حتى التقيت به لأعرف مقامه ، فقدّمت إليه نفسي ، فوجدت عنده من الرغبة في اللقاء مثل ما عندي ، ثم زرته فعلمت أنه فوق كتبه ، وفوق بحوثه ، وأنه كنز في مصر.
١٣ ـ وهنا أريد أن أبدي صفحة من تاريخ ذلك الشيخ الإمام ، لم يعرفها إلا عدد قليل :
لقد أردت أن يعمّ نفعه ، وأن يتمكّن طلاب العلم من أن يردوا ورده العذب ، وينتفعوا من منهله الغزير ، لقد اقترح قسم الشريعة على مجلس كلية الحقوق بجامعة القاهرة : أن يندب الشيخ الجليل للتدريس في علوم الشريعة ، من أقسام الدراسات العليا بالكلية ، ووافق المجلس على الاقتراح بعد أن علم الأعضاء الأجلاء مكان الشيخ من علوم الإسلام ، وأعماله العلمية الكبيرة.
ذهبت إلى الشيخ مع الأستاذ رئيس قسم الشريعة إبّان ذاك ، ولكننا فوجئنا باعتذار الشيخ عن القبول بمرضه ومرض زوجه ، وضعف بصره ، ثم يصرّ على الاعتذار ، وكلّما ألححنا في الرجاء لجّ في الاعتذار ، حتى إذا لم نجد جدوى رجوناه في أن يعاود التفكير في هذه المعاونة العلمية التي نرقبها ونتمنّاها ، ثم عدت إليه منفردا مرة أخرى ، أكرّر الرجاء وألحف فيه ، ولكنه في هذه المرة كان معي صريحا ، قال الشيخ الكريم ... إنّ هذا مكان علم حقّا ، ولا أريد أن أدرّس فيه إلا وأنا قويّ ألقي دروسي على الوجه الذي أحبّ ، وإنّ شيخوختي وضعف صحتي وصحّة زوجي ، وهي الوحيدة في هذه الحياة ، كلّ هذا لا يمكّنني من أداء هذا الواجب على الوجه الذي أرضاه.
١٤ ـ خرجت من مجلس الشيخ وأنا أقول أيّ نفس علويّة كانت تسجن في ذلك الجسم الإنساني ، إنها نفس الكوثرى.
وإنّ ذلك الرجل الكريم الذي ابتلي بالشدائد ، فانتصر عليها ، ابتلي بفقد الأحبة ، ففقد أولاده في حياته ، وقد اخترمهم الموت واحدا بعد الآخر ، ومع كل فقد لوعة ، ومع كل لوعة ندوب في النفس وأحزان في القلب. وقد استطاع بالعلم أن يصبر وهو يقول مقالة يعقوب : «فصبر جميل والله المستعان» ولكنّ شريكته في السرّاء والضراء أو شريكته في بأساء هذه الحياة بعد توالي النكبات ، كانت تحاول الصبر فتتصبّر ، فكان لها مواسيا ، ولكلومها مداويا ، وهو هو نفسه في حاجة إلى دواء.
ولقد مضى إلى ربّه صابرا شاكرا حامدا ، كما يمضي الصّدّيقون الأبرار ، فرضي الله عنه وأرضاه.
محمد أبو زهرة