يكون عند الله وجيها.
٨ ـ سعى رضي الله عنه بجدّه وعمله في طريق المعالي حتى صار وكيل مشيخة الإسلام في تركيا ، وهو ممن يعرف للمنصب حقّه ، لذلك لم يفرّط في مصلحة إرضاء لذي جاه مهما يكن قويّا مسيطرا ، وقبل أن يعزل في منصبه في سبيل الاستمساك بالمصلحة.
والاعتزال في سبيل الحقّ خير من الامتثال للباطل.
٩ ـ عزل الشيخ عن وكالة المشيخة الإسلامية ، ولكنه بقي في مجلس وكالتها الذي كان رئيسا له ، وما كان يرى غضّا لمقامه أن ينزل من الرئاسة إلى العضوية ما دام سبب النزول رفيعا ، إنه العلوّ النفسيّ لا يمنع العامل من أن يعمل رئيسا أو مرءوسا ، فالعزّة تستمدّ من الحق في ذاته ، ويباركها الحقّ جل جلاله.
١٠ ـ ولكنّ العالم الأبيّ العفّ التّقيّ يمتحن أشد امتحان ، إذ يرى بلده العزيز وهو دار الإسلام الكبرى ، ومناط عزّته ، ومحطّ آمال المسلمين يسوده الإلحاد ، ثم يسيطر عليه من لا يرجو لهذا الدين وقارا ، ثم يصبح فيه القابض على دينه كالقابض على الجمر ، ثم يجد هو نفسه مقصودا بالأذى ، وأنه إن لم ينج ألقي في غيابات السجن ، وحيل بينه وبين العلم والتعليم. عندئذ يجد الإمام نفسه بين أمور ثلاثة : إما أن يبقى مأسورا مقيّدا ، ينطفئ علمه في غيابات السجون ، وإنّ ذلك لعزيز على عالم تعوّد الدرس والإرشاد ، وإخراج كنوز الدّين ليعلّمها النّاس عن بينة ، وإما أن يتملّق ويداهن ويمالئ ، ودون ذلك خرط القتاد بل حزّ الأعناق ، وإما أن يهاجر وبلاد الله واسعة ، وتذكّر قوله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [النّساء : ٩٧].
١١ ـ هاجر إلى مصر ثم انتقل إلى الشام ، ثم عاد إلى القاهرة ، ثم رجع إلى دمشق مرة ثانية ، ثم ألقى عصا التسيار نهائيا بالقاهرة ، وهو في رحلاته إلى الشام ومقامه في القاهرة كان نورا ، وكان مسكنه الذي كان يسكنه ضؤل أو اتّسع مدرسة يأوي إليها طلاب العلم الحقيقي ، لا طلاب العلم المدرسي ، فيهتدي أولئك التلاميذ إلى ينابيع المعرفة ، من الكتب التي كتبت وسوق العلوم الإسلامية رائجة ونفوس العلماء عامرة بالإسلام ، فردّ عقول أولئك الباحثين إليها ووجّههم نحوها ، وهو يفسّر المغلق لهم ، ويفيض بغزير علمه وثمار فكره.
١٢ ـ وإنّ كاتب هذه السطور لم يلق الشيخ إلا قبل وفاته بنحو عامين ، وقد كان اللقاء الرّوحيّ من قبل ذلك بسنين ، عند ما كنت أقرأ كتاباته ، وأقرأ تعليقه على ما يخرج من مخطوط ، وأقرأ ما ألّف من كتب ، وما كنت أحسب أنّ لي في نفس ذلك العالم الجليل مثل ما له في نفسي ، حتى قرأت كتابه «حسن التقاضي في سيرة الإمام أبي يوسف القاضي» فوجدته رضي الله عنه خصّني عند الكلام في الحيل المنسوبة لأبي يوسف بكلمة خير.
وأشهد أني سمعت ثناء من كبراء وعلماء ، فما اعتززت بثناء كما اعتززت بثناء ذلك الشيخ الجليل ، لأنه وسام علمي ممن يملك إعطاء الوسام العلمي.