بالدّنيّة في دينه ، ولا يأخذ من يذل الإسلام بهوادة ، ولا يجعل لغير الله والحقّ عنده إرادة ، وأنه لا يصحّ أن يعيش في أرض لا يستطيع فيها أن ينطق بالحق ، ولا يعلي فيها كلمة الإسلام ، وإن كانت بلده الذي نشأ فيه ، وشدا وترعرع في مغانيه ، فإنّ العالم يحيا بالروح لا بالمادة ، وبالحقائق الخالدة ، لا بالأعراض الزائلة ، وحسبه أن يكون وجيها عند الله وفي الآخرة ، وأما جاه الدنيا وأهلها فظلّ زائل ، وعرض حائل.
٥ ـ وإنّ نظرة عبارة لحياة ذلك العالم الجليل ، ترينا أنه كان العالم المخلص المجاهد الصابر على البأساء والضرّاء ، وتنقّله في البلاد الإسلامية والبلاء بلاء ، ونشره النور والمعرفة حيثما حلّ وأقام. ولقد طوّف في الأقاليم الإسلامية فكان له في كل بلد حل فيه تلاميذ نهلوا من منهله العذب ، وأشرقت في نفوسهم روحه المخلصة المؤمنة ، يقدّم العلم صفوا لا يرنقه مراء ولا التواء ، يمضي في قول الحق قدما لا يهمّه رضي الناس أو سخطوا ما دام الذي بينه وبين الله عامرا.
ويظهر أن ذلك كان في دمه الذي يجري في عروقه ، فهو في الجهاد في الحقّ منذ نشأ ، وإنّ في أسرته لتقوى وقوّة نفس وصبر واحتمال للجهاد ، إنه من أسرة كانت في القوقاز ، حيث المنعة والقوّة وجمال الجسم والروح ، وسلامة الفكر وعمقه.
ولقد انتقل أبوه إلى الآستانة فولد على الهدى والحق ، فدرس العلوم الدينية حتى نال أعلى درجاتها في نحو الثامنة والعشرين من عمره ، ثم تدرّج في سلّم التدريس حتى وصل إلى أقصى درجاته وهو في سنة صغيرة ، حتى إذا ابتلي بالذين يريدون فصل الدنيا عن الدين ، لتحكم الدنيا بغير ما أنزل الله ، وقف لهم بالمرصاد ، والعود أخضر ، والآمال متفتحة ، ومطامح الشباب متحفّزة ، ولكنه آثر دينه على دنياهم ، وآثر أن يدافع عن البقايا الإسلامية على أن يكون في عيش ناعم ، بل آثر أن يكون في نصب دائم فيه رضا الله ، على أن يكون في عيش رافه وفيه رضا الناس ورضا من بيدهم شئون الدنيا ، لأن إرضاء الله غاية الإيمان.
٦ ـ جاهد الاتحاديين الذين كان بيدهم أمر الدولة لما أرادوا أن يضيّقوا مدى الدراسات الدينية ويقصّروا زمنها ، وقد رأى رضي الله عنه في ذلك التقصير نقصا لأطرافها ، فأعمل الحيلة ودبّر وقدّر ، حتى قضى على رغبتهم ، وأطال المدة التي رغبوا في تقصيرها ، ليتمكن طالب علوم الإسلام من الاستيعاب وهضم العلوم ، وخصوصا بالنسبة لأعجميّ بلسان عربيّ مبين.
٧ ـ وهو في كل أحواله العالم النّزه الأنف الذي لا يعتمد على ذي جاه في ارتفاع ، ولا يتملّق ذا جاه لنيل مطلب أو الوصول إلى غاية مهما شرفت ، فإنه رضي الله عنه كان يرى أن معالي الأمور لا يوصل إليها إلا طريق سليم ومنهاج مستقيم ، ولا يمكن أن يصل كريم إلى غاية كريمة إلا من طريق يصون النفس فيها عن الهوان ، فإنه لا يوصل إلى شريف إلا شريف مثله ، ولا شرف في الاعتماد على ذوي الجاه في الدنيا ، فإنّ من يعتمد عليهم لا