منهم ، فإنه كان متّبعا ، ولم يكن مبتدعا ، ولكني مع ذلك أقول : إنه كان من المجدّدين بالمعنى الحقيقي لكلمة التجديد ، لأن التجديد ليس هو ما تعارفه الناس اليوم من خلع للربقة وردّ لعهد النبوّة الأولى ، إنما التجديد هو أن يعاد إلى الدين رونقه ويزال عنه ما علق به من أوهام ، ويبيّن للناس صافيا كجوهره ، نقيّا كأصله ، وإنه لمن التجديد أن تحيا السّنّة وتموت البدعة ويقوم بين الناس عمود الدين.
ذلك هو التجديد حقا وصدقا ، ولقد قام الإمام الكوثري بإحياء السنة النبوية ، فكشف عن المخبوء بين ثنايا التاريخ من كتبها ، وبيّن مناهج رواتها ، وأعلن للناس في رسائل دوّنها وكتب ألّفها سنّة النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، من أقوال وأفعال وتقريرات ، ثم عكف على جهود العلماء السابقين الذين قاموا بالسنة ورعوها حقّ رعايتها ، فنشر كتبهم التي دوّنت فيها أعمالهم لإحياء السنة والدّين قد أشربت النفوس حبّه ، والقلوب لم ترنّق بفساد والعلماء لم تشغلهم الدنيا عن الآخرة ، ولم يكونوا في ركاب الملوك.
٣ ـ لقد كان الإمام الكوثري عالما حقا ، عرف علمه العلماء ، وقليل منهم من أدرك جهاده ، ولقد عرفته سنين قبل أن ألقاه ، عرفته في كتاباته التي يشرق فيها نور الحق ، وعرفته في تعليقاته على المخطوطات التي قام على نشرها ، وما كان والله عجبي من المخطوط بقدر إعجابي بتعليق من علّق عليه ، لقد كان المخطوط أحيانا رسالة صغيرة.
ولكن تعليقات الإمام عليه تجعل منه كتابا مقروءا ، وإنّ الاستيعاب والاطّلاع واتساع الأفق ، تظهر في التعليق بادية العيان ، وكلّ ذلك مع طلاوة عبارة ، ولطف إشارة ، وقوّة نقد ، وإصابة للهدف ، واستيلاء على التفكير والتعبير ، ولا يمكن أن يجول بخاطر القارئ أنه كاتب أعجمي وليس بعربي مبين.
ولقد كان لفرط تواضعه لا يكتب مع عنوان الكتاب عمله الرسميّ الذي كان يتولاه في حكم آل عثمان ، لأنه ما كان يرى رضي الله عنه أنّ شرف العالم يناله من عمله الرسمي وإنما يناله من عمله العلمي ، فكان بعض القارئين ـ لسلامة المبنى مع دقة المعنى ولإشراق الديباجة وجزالة الأسلوب ـ لا يجول بخاطره أنّ الكاتب تركي بل يعتقد أنه عربي ، ولد عربيّا ، وعاش عربيّا ، ولم تظلّه إلا بيئة عربية.
ولكن لا عجب فإنه كان تركيّا في سلالته وفي نشأته ، وفي حياته الإنسانية في المدة التي عاشها في الآستانة ، أما حياته العلمية فقد كانت عربية خالصة ، فما كان يقرأ إلا عربيّا ، وما ملأ رأسه المشرق إلا النور العربيّ المحمديّ ، ولذلك كان لا يكتب إلا كتابة نقية خالية من كل الأساليب الدخيلة في المنهاج العربي ، بل كان يختار الفصيح من الاستعمال الذي لم يجر خلاف حول فصاحته ، مما يدلّ على عظم اطّلاعه على كتب اللغة متنا ونحوا وبلاغة ، ثم هو فوق ذلك يقرض الشعر العربي فيكون منه الحسن.
٤ ـ لقد اختصّ رضي الله عنه بمزايا رفعته وجعلته قدوة للعالم المسلم ، لقد علا بالعلم عن سوق الاتجار ، وأعلم الخافقين أنّ العالم المسلم وطنه أرض الإسلام ، وأنه لا يرضى