وتحقّق نوع مقابلة بين الرائي والمرئي وعند ذلك كيف يمكن أن تتحقّق الرؤية بلا بعض هذه الشرائط.
ثمّ إنّ بعض المثقفين من الأشاعرة لما وقعوا في مخمصة إزاء هذه الإشكالات ، التجأوا إلى أمر آخر ، وهو القول بأنّ كلّ شيء في الآخرة غيره في الدنيا. وهذا الكلام وإن كانت عليه مسحة من الحقّ ، لكن لا يعنى به أنّ حقيقة الأشياء في الآخرة تباين حقيقتها في الدنيا ، وهذا مثل أن يقال : إنّ حقيقة المربع والمثلث في الآخرة غيرهما في الدنيا ، أو إنّ نتيجة « ٢*٢ » تصير في الآخرة خمسة ، بحجّة أنّ كلّ شيء في الآخرة غيره في الدنيا ، وإنّما المراد من القاعدة هو أنّ كلّ ما يوجد من الأشياء في الآخرة يكون بأكمل الوجود وأمثله ، لا أنّه يباينه على وجه الإطلاق. يقول سبحانه : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَة رِزْقاً قالُوا هذا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً). (١)
ثمّ إنّ الأشعري وبعده تلاميذ منهجه استدلّوا على الجواز بوجهين : أحدهما يرجع إلى الجانب السلبي ، وأنّه لا يترتب على القول بالرؤية شيء محال ، والآخر إلى الجانب الإيجابي ، وأنّ مصحح الرؤية في الأشياء هو الوجود ، وهو مشترك بين الخالق والمخلوق.
ثمّ أكّدوا الأدلّة العقلية بالأدلة السمعية ، وعلى ذلك فيقع الكلام في تحرير أدلّتهم في مقامين : الأدلّة العقلية ، والأدلة السمعية. ونقدّم العقلية :
الدليل العقلي الأوّل لجواز الرؤية
إنّ تجويز الرؤية لا يستلزم شيئاً ممّا يستحيل عليه سبحانه ، فلا يلزم كونه حادثاً أو إثبات حدوث معنى فيه ، أو تشبيهه أو تجنيسه ، أو قلبه عن حقيقته ، أو تجويره أو تظليمه ، أو تكذيبه. ثمّ أخذ الأشعري في شرح نفي هذه اللوازم على وجه مبسوط ، ونحن نقتطف منه جملتين :
١ ـ « ليس في جواز الرؤية إثبات حدث ، لأنّ المرئي لم يكن مرئياً لأنّه
ــــــــــــــــــ
١ ـ البقرة : ٢٥.