وقال « زهدي حسن جار الله » المصري :
« لقد كان المستقبل ، بعد الحركة الرجعية ، يلوح سيّئاً قاتماً ، وكان يبدو أنّ العناصر الرجعية ، ستدوس كلّ ماعداها ، وأنّ كلّ حركة ترمي إلى التقدم العلمي ، والتحرر الفكري ، ستخمد أنفاسها... لولا أن قام « أبو الحسن الأشعري » ( المتوفّى٣٣٠ هـ ) ، فأنقذ ما أمكن إنقاذه من الموقف... كان الأشعري معتزلياً صميماً ، ولكنّه أدرك ببصره النافذ وعقله الراجح ، حقيقة الوضع. رأى الهوة بين أهل السنّة وبين أهل الاعتزال في اتّساع وازدياد ، ووجد الحركة الرجعية تقوى وتشتد ، فعلم أنّ الاعتزال صائر لا محالة إلى زوال.
فأزعجته هذه الحقيقة المروعة وأقضّت مضجعه ، ولذلك تقدم إلى العمل... فتنكّر للمعتزلة ، وأعلن انفصاله عنهم ورجوعه إلى حظيرة السنّة (١) غير أنّه لم يرجع إليها فعلاً كما أعلن للملأ ، بل اتخذ طريقاً وسطاً بينها وبين مذهب المعتزلة (٢) ، وقد صادف هذا العمل قبولاً لدى الناس ، ما عدا الحنابلة ، ولاقى استحساناً ، ولا عجب فإنّ الجمود على التقليد ، ما كان ليروق للكثيرين بسبب تقدم الأُمّة في الحضارة واقتباسها العلوم العقلية ، واطّلاعها على فلسفة الأقدمين ، وفي الوقت نفسه أصبح الناس لا يرتاحون إلى المعتزلة بعد أن تطرّفوا في عقائدهم ، وأساءوا التصرف مع غيرهم. فكانت الحاجة تدعو إلى من يؤلّف بين وجهتي نظر السنّة والاعتزال ، وهذا هو ما بدأه الأشعري ، وأكمله من بعده أتباعه الكثيرون الذين اعتنقوا مذهبه ، وساروا على طريقه ، وهم صفوة علماء الإسلام في وقتهم ، وخيرة رجاله ، كالقاضي أبي بكر الباقلاني (٣) ( المتوفّى٤٠٣ هـ ) ، وابن فورك ( المت (٤) وفّى ٤٠٦ هـ ) ، وأبي إسحاق الإسفرائيني ( المتوفّى ٤١٨ هـ ) (٥) ، وعبد القاهر البغدادي ( المتوفّى ٤٢٩ هـ ) (٦) والقاضي أبي الطيب
ــــــــــــــــــ
١ ـ الإبانة ، ٨ ؛ والوفيات : ١/٤٦٤.
٢ ـ مقدّمة ابن خلدون : ٤٠٦ ؛ الخطط : ٤/١٨٤.
٣ ـ الوفيات : ١/٦٨٦.
٤ ـ طبقات الشافعية : ٣/٥٢ ـ ٥٤.
٥ ـ طبقات الشافعية : ٣/١١١ ـ ١١٤.
٦ ـ طبقات الشافعية : ٣/٢٣٨.