فالحقّ أنّ هذا الحديث يدلّ على اللزوم مطلقا ومن جميع النواحي ، لا من ناحية خيار المجلس فقط ، فأدلّة سائر الخيارات تكون من قبيل المخصّصات والمقيّدات لهذا العموم والإطلاق. نعم هذه الرواية أو الحديث لا تدلّ على اللزوم إلاّ في البيع ، وأمّا في سائر العقود والمعاملات فلا بدّ من التماس دليل آخر على اللزوم.
ثمَّ بعد ما عرفت ما ذكرنا تعرف أنّ مقتضى هذه العمومات والإطلاقات ، هو كون الأصل في أبواب العقود والمعاملات هو اللّزوم ، ولا يؤثّر الفسخ إلاّ بدليل خاصّ لأدلّة الخيارات ، فأصالة اللزوم حيث أنّها من باب أصالة الإطلاق أو أصالة العموم ، فهي قابلة للتقييد والتخصيص ، والمخصّصات هي أدلّة الخيارات.
ثمَّ إنّ مفاد الإطلاقات والعمومات المذكورة مختلفة من حيث السعة والضيق.
فالعموم الأوّل ـ أي بناء العقلاء ـ أوسع وأشمل من الجميع ؛ إذ يشمل جميع العقود والمعاهدات ، معاوضيّة كانت أو غير معاوضية ، مملّكة كانت أو غير مملّكة ، بل يشمل الإيقاعات أيضا.
وأمّا الثاني : أي قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) يشمل جميع العقود مطلقا ولا يشمل الإيقاعات ، وأمّا خروج العقود الإذنيّة عن مفادها ، فقد قلنا إنّها ليس من باب التخصيص ، بل يكون خروجها خروجا موضوعيّا وبالتخصّص ، لأنّها عقد صورة وليست في الحقيقة بعقد. وأمّا العقود العهديّة فيشملها ، سواء كانت معاوضيّة ومملكة أو لم تكن كذلك ، حتّى يشمل مثل عقد البيعة الشرعيّة الصحيحة ، بل المعاهدات التي تقع بين المسلمين وغيرهم إن كانت جائزة وكانت على طبق المقرّرات الشرعيّة.
وأمّا الثالث : أي قوله تعالى ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) (١) فبناء على ما تقدّم في وجه دلالته على اللزوم وعدم تأثير الفسخ يكون مختصّا بالعقود المملّكة ، وفي أبواب المعاوضات التي يصير كلّ واحد من
__________________
(١) النساء (٤) : ٢٩.