من الأدلّة الشرعيّة والقرائن المعتبرة ما دعاهم إلى ذلك ، وإلّا فلا ريب أنّ تقديم العامّ على الخاصّ ـ كما يصنعونه في الصورة الثالثة ـ على خلاف القاعدة.
نعم مشوا على طبق القاعدة في الصورة الرابعة ، حيث قدّموا خصوص الكرّ على عموم الملاقاة ، فمن بنائهم في هذا المقام يظهر الإجماع على تحكيم أدلّة التغيّر على أدلّة سائر العنوانات ، ولو فرضت في بعضها جهة خصوصيّة بالقياس إلى عنوان التغيّر ، وإجماعهم ذلك يكشف جزما عن وجود دليل محكم وقرينة معتبرة ، وإن لم نعلم بهما عينا ، وقضيّة ذلك خروج صورة التغيّر عن أدلّة ماء الاستنجاء ، كما هي خارجة عن أدلّة الكرّ.
ولك أن تقول : إنّ النسبة بين أدلّة الاستنجاء وأدلّة التغيّر وإن كانت في ابتداء النظر عموم من وجه ـ كما فهمه صاحب المناهل ـ غير أنّها منقلبة إلى ما لا معارضة معه ، بعد تحكّم أدلّة التغيّر على أدلّة الكرّ ، ثمّ تحكيم أدلّة الكرّ على أدلّة الماء الملاقي للنجاسة ، ثمّ تحكيم أدلّة الاستنجاء على أدلّة القليل الملاقي للنجاسة ، فإنّ صورة التغيّر حينئذ خارجة عن عنوان الكرّ ، فهو في قوله : « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء » (١) مقيّد بعدم التغيّر ، فيكون مفهومه أيضا مقيّدا به ، إذ المفهوم تابع للمنطوق في جميع ما اعتبر فيه ، فالحكم بعدم انفعال القليل إنّما ورد عليه وهو مقيّد بعدم التغيّر ، والمفروض أنّ ماء الاستنجاء مخرج منه ، فيكون مشاركا له في قيده ، لوجوب دخول المستثنى في الاستثناء المتّصل في جملة أفراد المستثنى منه ، ومعه أيضا لا يتناول حكم الطهارة في الاستثناء لصورة التغيّر ، فيبقى تلك الصورة ـ إذا تحقّقت في ضمنه ـ في الحكم عليها بالنجاسة سليمة عن المعارض ، فتأمّل جيّدا (٢).
وبالجملة : اعتبار عدم التغيّر في طهارة ماء الاستنجاء ـ كما صنعه الجماعة ، وأطبقوا عليه ، وادّعى عليه الإجماع ـ في محلّه.
__________________
(١) الوسائل ١ : ١٥٨ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١.
(٢) وجهه : أنّ جهة المعارضة بين الكرّ الغير المتغيّر وبين الملاقي للنجاسة إنّما هي ذات الكرّ دون قيده ، فلا داعي إلى حمل الملاقي على عدم التغيّر ، بل غايته أنّه يحمل على ما عدا الكرّ ، وكذلك جهة العارضة بين ما دون الكرّ الغير المتغيّر وبين الملاقي إنّما هو عموم الملاقي للكرّ ، فيحمل على ما دون الكرّ نفسه دونه مع وصفه ، ومعه لا داعي إلى أخذ عدم التغيّر في موضوع حكم الانفعال ليكون ماء الاستنجاء مخرجا عنه مقيّدا بهذا الوصف كما لا يخفى (منه عفي عنه).