الخبرين ، وإنّما التنافي بين مفهوم الثاني ـ بل الأوّل إن كان له مفهوم ـ ولا ريب أنّ المفهوم مخصوص بالقليل ، وأمّا المنطوق الشامل للجاري والراكد وغيرهما فهو موافق لاطلاقات الجاري في الدلالة على عدم الانفعال كما هو واضح وبالجملة : الاولى من التخصيصين إنّما هو تخصيص المفهوم ، تقديما للأظهر على الظاهر من جهتين ، كما لا يخفى على المتأمّل.
نعم ، إنّما يخدش في تلك الروايات عدم ثبوت اعتبار أسانيدها ، والشهرة وإن كانت محقّقة لا تصلح جابرة ، لعدم وضوح كونها مستندة إليها ، على معنى كون مستند المشهور في ذهابهم إلى عدم اشتراط الكرّيّة في الجاري هو تلك الروايات وهو غير واضح ، فالقدح في السند لا رافع له ، ومجرّد موافقة المضمون لها لا يوجب الوثوق بصدقه ما لم تكن الشهرة موجبة للوثوق بمفادها ، وبالجملة : لو لا هذه المناقشة في السند كان في تلك الروايات كفاية في إثبات الحكم المبحوث عنه.
وثامنها : الإجماعات المنقولة ـ المتقدّم إليها الإشارة ـ المعتضدة بالشهرة العظيمة ، محقّقة ومحكيّة ، ويشكل التعويل عليها في المقام على جهة الاستقلال ، لعدم ثبوت حجّيّة منقول الإجماع عندنا بالخصوص ، وكونه حجّة من باب الكشف عن وجود دليل معتبر ليس المقام من موارده ، إذ المراد بالكشف حصول الاطمئنان وسكون النفس وخروجها عن التزلزل ، وهي قاصرة عن الكشف بهذا المعنى ، لما نرى في كلام كثير من المتأخّرين ـ كما عرفت ـ من التعويل على ما ليس بصالح له من الوجوه المتقدّمة ، والتعويل عليها وإن لم يعلم من المجمعين أو كثير من الناقلين للإجماع غير أنّ تعويل المتأخّرين عليها مانع عن حصول الوثوق بما ذكر ، وإن وجد في كلام بعضهم التعويل على ما له دلالة على المطلب ، سليمة عمّا يصلح للمعارضة ، كصحيحة داود بن سرحان (١) ورواية ابن أبي يعفور (٢) ـ على فرض انجبار سندها ـ والروايات الاخر المتقدّمة على فرض اعتبار أسانيدها أو انجبارها.
وتاسعها : ما اعتمد عليه المحقّق البهبهاني ـ مضافا إلى أصالة البراءة المتقدّم ذكرها وقوله : « كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر » (٣) ـ « من طريقة المسلمين في عملهم في الأعصار والأمصار واتّفاق فتاوي فقهائهم » (٤).
__________________
(١ و ٢) تقدّما في الصفحة ٤٢٨.
(٣) الوسائل ٣ : ٤٦٧ ب ٣٧ من أبواب النجاسات ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢.
(٤) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ٤٦.