والأصل والرواية قد عرفت ما فيهما ، وطريقة المسلمين وإن كانت جارية في الجملة ، غير أنّه غير واضح الوجه ، لقوّة احتمال استنادها إلى فتاوي فقهائهم فقد تبيّن من البداية إلى تلك النهاية : أنّ المعتمد من الأدلّة المذكورة صحيحة داود بن سرحان ، ودونها ـ بعد سلامة السند ـ رواية ابن أبي يعفور ، المعتضدة بالشهرة العظيمة والإجماعات المنقولة ، وما ذكر من طريقة المتشرّعة ، فإنّ كلّ ذا ممّا لا ضير في أخذها مؤيّدة ، فصار المحصّل : أنّ المختار ما ذهب إليه المشهور ـ المنصور ـ بشرط أن يكون سائلا على وجه الأرض عن نبع ، اقتصارا على القدر المتيقّن من معقد الإجماعات وعمل المسلمين ، المتبادر من الصحيحة ولو بحسب الغلبة والقرائن الخارجة ، المعلومة بالتتبّع ونحوها.
وأمّا غيره من السائل لا عن نبع ، أو السائل عن رشح ، أو النابع أو الراشح بلا سيلان ، فيبقى على حكم القاعدة.
وعن العلّامة الاحتجاج على ما صار إليه ـ من اشتراط الكرّيّة في الجاري ـ بعموم الأدلّة الدالّة على اعتبار الكرّيّة ، كقوله عليهالسلام في صحيحتي معاوية بن عمّار ، ومحمّد بن مسلم : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (١).
أقول : هذا حقّ لا إشكال فيه ولا شبهة تعتريه ، لو لا حكومة ما تقدّم على الأدلّة المذكورة ، لو اريد بها مفهوم الروايتين مع الروايات الاخر الواردة بهذا المضمون ، وإلّا فإطلاق دعوى العموم في محلّ منع ، لكون ما عدا تلك الروايات المشار إليها بين ظاهرة وصريحة في الراكد ، كما لا يخفى على الناظر الناقد.
وأجاب عنه في المدارك ـ ووافقه عليه غيره كما عن مصابيح العلّامة الطباطبائي (٢) ـ : « بمنع العموم ، لفقد اللفظ الدالّ عليه ، سلّمنا العموم لكن نقول : عمومان تعارضا من وجه ، فيجب الجمع بينهما بتقييد أحدهما بالآخر ، والترجيح في جانب الطهارة بالأصل ، والإجماع ، وقوّة دلالة المنطوق على المفهوم » (٣).
وفيه : ما لا يخفى من التعسّف ، فإنّ المفهوم ـ إذا كان الاستدلال به ـ تابع للمنطوق ، فلفظة « الماء » في المنطوق شاملة للجاري جزما ، لبطلان خلافه بالضرورة ، ولعدم ما
__________________
(١) الوسائل ١ : ١١٧ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٠ / ١٠٨ ، ١٠٩.
(٢) المصابيح في الفقه ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٧.
(٣) مدارك الأحكام ١ : ٣٢.