وأمّا الوجه الثاني : فلأنّ ثبوت صفة النجاسة في الشيء لا ينوط يعلم أصلا ، حتّى يقال : بأنّ العلم الإجمالي غير مؤثّر فيه ، بناء على أنّها من الامور الواقعيّة التابعة لموضوعاتها الّتي كشف عنها الشرع ورتّب عليها أحكاما ، فثبت حين ثبوت الموضوع ، وتنتفي بانتفائه ، من غير مدخليّة للعلم فيها وجودا وعدما ، والقول : بأنّها ليست إلّا الأحكام المرتّبة الّتي لا بدّ فيها من العلم ضعيف جدّا ، وعلى فرض صحّته فالمناط موجود قطعا.
وأمّا الوجه الثالث : فلأنّ جريان أحكام النجاسة تابع للأدلّة المعلّقة لها على العلم بتحقّق سبب النجاسة ، ولا ريب أنّه لا تقييد في تلك الأدلّة كما يظهر بملاحظة ما تقدّم من الأخبار المستفيضة القريبة من التواتر في مسألة إناطة أحكام النجاسة بالعلم ، أو ما يقوم مقامه ، ودعوى انصراف العلم الوارد فيها إلى غير المقام مكابرة يكشف عنها بناء العرف في عدم الفرق في الأخذ بآثار العلم بين المعلوم تحقّق سببه تفصيلا أو إجمالا.
هذا بناء على ما تقرّر في المسألة المشار إليها من نهوض الأخبار المذكورة فيها مقيّدة لأدلّة الواقع ، وإلّا فخطاب قوله : « اجتنب عن النجس » مثلا وما يؤدّي مؤدّاه ظاهر في وجوب الاجتناب عن النجس الواقعي من غير مدخليّة للعلم إلّا طريقا للتوصّل إلى امتثال الأمر بالاجتناب ونحوه بحكم العقل ، الّذي لا فرق فيه بين المعلوم نجاسته تفصيلا أو إجمالا.
فمنع شمول أدلّة الواقع ، أو الأدلّة المقيّدة لتلك الأدلّة بصورة العلم لمثل المقام مكابرة ، يدفعها : فهم العرف ، وعدم قيام صارف من قبله ، ولا من قبل العقل ولا الشرع.
أمّا الأوّل : فلأنّ أهل العرف هم الّذين يقيمون بذمّ من يخالف معلوم بالإجمال. وأمّا الثاني : فلأنّ العقل لا يأبى عن معاقبة المخالف بل يجوّزها ، ولا يرضى من العالم بالإجمال بخلاف الامتثال الّذي هو متمكّن عنه بالفرض.
وأمّا الثالث : فلأنّه ليس في خطابات الشرع إلّا ما يقضي بمنع المخالفة كما عرفته من الأخبار الآمرة بالاجتناب ، أو بما هو من لوازم الاجتناب.
وتوهّم المعارضة لذلك بما تقدّم من الأصلين ، وعمومات الأخبار المعمولة في أصل البراءة ، قد عرفت ما فيه بما لا مزيد عليه.