يكن بين تلبية المدعوّ وزهده ، وبين قبوله وردّه ، إلّا كما يحسو الطائر ماء الثّماد ويأبى الله أن يكل نصر (١) هذه الجزيرة إلى سواه ، وأن يجعل فيها سببا إلّا لمن أخلص لوجهه الكريم علانيته ونجواه. ولمّا أسلم الإسلام بهذه الجزيرة الغريبة إلى مثاويه (٢) ، وبقي المسلمون يتوقّعون حادثا ساءت ظنونهم لمباديه ، ألقينا إلى الثقة بالله تعالى وحده يد الاستسلام ، وشمّرنا عن ساعد الجدّ والاجتهاد (٣) في جهاد عبدة الأصنام ، وأخذنا بمقتضى قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ)(٤) أخذ الاعتزام ، فأمدّنا الله تعالى بتوالي البشائر ، ونصرنا بألطاف أغنى فيها خلوص الضمائر عن قوّاد (٥) العساكر ، ونفلنا (٦) على أيدي قوّادنا ورجالنا من السّبايا والغنائم ما عدّ (٧) ذكره في الآفاق كالمثل السائر (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها)(٨) ، وكيف يحصيها المحصي أو يحصرها الحاصر. وحين أبدت لنا العناية الربّانيّة وجوه الفتوح (٩) سافرة المحيّا ، وانتشقنا نسيم (١٠) النّصر الممنوح عبق الرّيّا ، استخرنا الله تعالى في الغزو بأنفسنا (١١) ونعم المستخار ، وكتبنا إلى من قرب من عمّالنا (١٢) بالحضّ على الجهاد والاستنفار. وحين وافى من خفّ للجهاد من الأجناد والمطوّعين ، وغدوا بحكم رغبتهم في الثواب على طاعة الله مجتمعين ، خرجنا بهم ونصر الله تعالى أهدى دليل ، وعناية الله بهذه الفئة المفردة من المسلمين ، تقضي بتقريب البعيد من آمالنا ، وتكثير القليل. ونحن نسأل الله تعالى أن يحملنا على جادّة الرّضا والقبول ، وأن يرشدنا إلى طريق يفضي (١٣) إلى بلوغ الأمنية والمأمول (١٤) ، إلى أن حللنا عشيّة يوم الأحد ثاني يوم خروجنا بمقربة حصن اللّقوة فأدرنا به التّدبير ، واستشرنا من أوليائنا من تحققنا نصحه فيما يشير ، فاقتضى الرأي المقترن بالرّشاد ، المؤذن بالإسعاد ، قصد قيجاطة لما رجى من تيسير فتحها ، وأملا في إضاءة فجر الأماني لديها ، وبيان صبحها ، فسرنا نحوها في جيش يجرّ على المجرّة ذيل النقع المثار ، ويضيق عن كثرته واسع الأقطار ، ويقرّ عين الإسلام بما اشتمل عليه من الحماة والأنصار ، تطير بهم نيّاتهم بأجنحة العزم إلى
__________________
(١) في النفح : «نصرة الإسلام بهذه الجزيرة إلى سواه ، ولا يجعل فيها شيئا إلّا ...».
(٢) في النفح : «مناويه».
(٣) كلمة «والاجتهاد» ساقطة في النفح.
(٤) سورة البقرة ٢ ، الآية ١٩٥.
(٥) في النفح : «قود».
(٦) في الأصل : «ونقلنا» والتصويب من النفح. ونفّل القائد جنده : أعطاهم ما غنموه. لسان العرب (نفل).
(٧) في النفح : «ما غدا».
(٨) سورة إبراهيم ١٤ ، الآية ٣٤.
(٩) في النفح : «الفتح».
(١٠) في النفح : «نسائم».
(١١) في النفح : «بنفسنا».
(١٢) في النفح : «أعمالنا».
(١٣) في النفح : «تفضي».
(١٤) لهنا ينتهي النص في النفح.