قبض أرواح الكفار. فلمّا وصلنا إلى وادي على مقربة منها نزلنا به نريح الجياد ، ونكمل التأهّب للقتال والاستعداد ، وبات المسلمون ليلتهم يسألون الله تعالى بأن يمنحهم الإعانة بتأييده والإمداد. وحين فجر الفجر وأنار النهار ، وقدحت به الأصباح زند الأنوار ، ركبنا إليها والعساكر قد انتظمت عقودها ، والسيوف قد كادت تلفظها غمودها ، وبصائر الأولياء المجاهدين قد لاح من نصر الله تعالى معهودها. فلمّا وصلناها وجدنا ناسنا قد سبقوا إليها بالبوس ، وهتكوا ستر عصمتها المحروس ، وأذن لها بزوال النعم وذهاب النفوس ، فعاجلها الأولياء بالقتال ، وأهدوا إليها حمر المنايا من زرق النّصال ، ورشقوا جنودها بالنّبال ، وجدّوا بنات الآجال ، فلما رأوا ما لا طاقة لهم به لاذوا بالفرار من الأسوار ، وولّوا الأدبار ، وودّعوا الديار وما فيها من الآثار. وتسنّم المسلمون ذروة البلد الأول فملكوه ، وخرقوا حجاب السّتر المسدول عليه وهتكوه ، وتسرعوا إلى البلد الثاني وقد ملأ النصارى أسواره من حماة رجالهم ، وانتقوهم من متخيّري أبطالهم ، ممن وثقوا بإقدامه في حماية ضلالهم ، فحمل عليهم المسلمون حملة عرّفوهم بها كيف يكون اللّقاء ، وصرفوهم إلى ما تنصرف إليه أرواحهم من الشّقاء ، وأظهروا لهم من صدق العزائم ما علموا به أن لدين الإسلام أنصارا لا يرغبون بأنفسهم عن الذّبّ عنه وحماية راياته ، ولا يصدرون إلا إلى طاعة الله ابتغاء مرضاته. وبادر جماعة إلى إضرام باب المدينة بالنيران ، وعقدوا تحت سماء العجاج منها سماء الدّخان ، ورموا النصارى من النّبال بشهب تتبع منهم كل شيطان. فهزم الله النصارى ، وولوا أدبارهم ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، فأخلوا بروجهم وأسوارهم ، وتسنّمها المسلمون معلنين شعار الإسلام ، رافعين من الرايات الحمر كواكب في سماء السّعادة تبشّر بتيسير كل مرام. ودخلوا المدينة فألفوا بها من القوت والعتاد ، والمتاع الفاخر الذي يربو على التّعداد ، ما ملأ كلّ يمين وشمال ، وظهروا عليها بعد بلوغ الأماني على الكمال ، وقتلوا بها من الحماة أعداء أبدوا في حماية ضلالهم ماضي الفنا والاعتزام ، وأعملوا فيهم ماضي العوامل وشبا الإضرام. وارتفع النصارى إلى القصبة لائذين بامتناعها ، معتصمين بعلوّها وارتفاعها ، متخيّلين لضلالهم ، وعدم استبصارهم أن نور الهدى لا يحلّ بديارهم. فرأينا أن نرقي الرجال إلى أبراج البلد وأسواره ، وأمرناهم أن يبيتوا طول ليلتهم مضيّقين على من اعتصم بالقصبة في حصاره ، وعمدنا بالعسكر المظفر إلى موضع استيطانه من المحلة المنصورة واستقراره. فلمّا بدا ضوء الصباح بنور الإشراق ، ولاح وجه الغزالة طارحا شعاعه على الآفاق ، أمرنا بترتيب العساكر على القصبة للحصار ، وعيّنّا لكل جماعة منهم جهة يبادرون إلى منازلتها بالقتال أشدّ البدار ، فانتهى المسلمون من ذلك إلى غاية لم تخطر