للكافرين ببال ، وجرّعوهم كؤوس المنايا ، وأداروا بها بنات الحنايا ، فأفضت السّجال وأظهر الكفار ، مع وقوعهم في بحر الموت صبرا وطمعوا أن يقيموا بذلك لصلبانهم عذرا. فلما رأوا من عزمنا ما لم تتخيله ظنونهم وأوهامهم ، وصابرهم المسلمون عند النزال مصابرة عظم فيها إقدامهم وثبتت أقدامهم ، ألقوا بأيديهم إلى التّهلكة إلقاء من هاله لمعان الأسنّة واهتزاز ردينيات القنا ، ولاذوا بطلب الأمان لياذ الغريق بالساحل بعد ما أشرف على الفنا ، وهبط زعيمهم مقتحما خطر تلك المسالك ، متضرّعا تضرع من طمع في الحياة بعد ما أخذته أيدي المهالك ، وشرط أن يملّكنا القصبة ، ويبقى خديما لنا بما بيده من البلاد الكثيرة والكتيبة المنتخبة ، فلم نظهر له عند ذلك قبولا ، ولم نجعل له إلى تكميل ما رغب فيه سبيلا ، فقاده البأس الشديد إلى الإذعان ، ورغب أن يكمل ما نريده على شرط الأمان. فأسعفنا رغبته على شروط ، بعد عهد المسلمين بمثلها ، وهيّئت الأسباب بما نعتمده من الثقة بالله وحده في أمورنا كلها ، وذلك على كذا وكذا. وحين كملت الشروط حقّ التكميل ، وظهرت لنا منه أمارات الوفاء الجميل ، دخلنا القصبة حماها الله ، وقد أغنى يوم النصر عن شهر السلاح ، كما أغنى ضوء الصبح عن نور المصباح ، ورفعت على أبراجها حمر الأعلام ، ناطقة عن الإسلام ، بالتعريف والإعلام. وفي الحين وجهنا من يقبض تلك الحصون ، ويزيل ما بها من جرم الكفر المأفون ، أمناء رجالنا. فالحمد لله على هذه النعمة التي أحدثت للقلوب استبشارا ، وخفضت علم التثليث ورفعت للتوحيد منارا ، وأظهرت للملّة الحنيفية على أعدائها اعتلاء واستكبارا. وهذا القدر من الفتح وإن كان سامي الفخر ، باقي الذكر بقاء الدهر ، فإننا لنرجو من فضل الله أن يتبعه بما هو أعلى منه متانة ، وأعظم في قلوب أهل الإيمان موقعا وأعز مكانة ، وأن يرغم بما يظهر على أيدينا من عز الإسلام ، أنف من أظهر له عنادا وخذلانا. فاستبشروا بهذا الفتح العظيم وبشّروا ، واشكروا الله عليه ، فواجب أن تشكروا. وقد كتبنا هذا ، ونحن على عزمنا في غزو بلاد الكفار ، والسعي الحميد إلى التنكيل بهم والإضرار ، والمسلمون أعزهم الله في أرضهم يشنون المغار ، ويمتلكون الأنجاد منها والأغوار ، ويكثرون القتل والأسار ، ويحكّمون أينما نزلوا السّيف والنار ، والسلام.
ومن نثر آخر إجازة ما صورته (١) :
__________________
(١) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٤٥) وأزهار الرياض (ج ٢ ص ٣٤٦ ـ ٣٤٧) ، وفي الأزهار يخاطب ابن الجياب الشيخ أبا علي عمر الجراوي.