الممتدة شرقا وغربا والإعتناء بالتجارة ، حتى أن ملك صقلية دعا إليه العلامة الإدريسي (١) ، وألف عنده كتابه الغريب المسمى : «نزهة المشتاق» في الجغرافيا ، واستفادوا أيضا من الإسلام في المشرق في مدّة حروب الصليب فخالطوهم وتعلموا منهم مسالك الترقي والقوة وفنون المعارف فانبثت فيهم في جهات عديدة في وقت واحد ، فكانت في القرن الثالث عشر المسيحي الموافق للقرن الخامس والسادس الهجري علماء في الفلسفة وغيرها في كل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا ، واجتهدت من ذلك الوقت كل جهة في ترقية نفسها والتشبث بالوسائل التي لا تحوجها إلى غيرها ، وأعظم الوسائل التي أعانتهم على بلوغ المعارف صناعة طبع الكتب التي كثرت بها الكتب ورخصت حتى تيسر الإطلاع عليها حتى لغير ذي الثروة.
ولما انفتحت بصائرهم وعلموا أن العوائق عن بلوغ المقصود منحصرة في عدم إنسجام الإدارة والأحكام على مقتضى المصلحة وعدم صرف النظر إلى منافع الأمّة حيث لم تكن لهم شريعة تضبطهم وإنما الملوك المستبدّون هم الذين يتصرفون كما أرادوا ، وجذبوا إليهم العلماء بالترغيب والترهيب فأعانوهم على العامّة إلى أن وصلوا إلى درجة الإضمحلال ، فلما انفتحت بصائر الأمم تحزبوا في جهات إلى تقييد التصرف من الملوك بمشاورة رؤوساء الأمم ووجهائهم ، وأن تكون الإدارة على قانون معلوم موافق لعادات الأمّة وما يقتضيه حالها وأن يستوي الشريف والمشروف في الحقوق الشخصية ، وأن لا يمتاز قسم من الناس بالأشياء الضرورية كالعلوم والأراضي والتجارة وغيرها ، فحصل هذا المقصود في بعض تلك الممالك بإراقة الدماء الغزيرة بين الملوك المستبدين وبين الأمّة.
وفي بعض الممالك تفطن عقلاء ملوكها إلى وجوب العمل بذلك الوجه إما لحذقهم وإيثارهم للمصلحة العامّة على الخاصة بهم حيث علموا أنها أي الخاصة لا تدوم إلا بدوام الأمّة ، فآثروا مصلحة الأمّة أو إتقاء من أيلولة أمر المملكة إلى ما آل إليه غيرها مما لا ثمرة لهم في الإصرار على منعه ، فسارعوا إلى منح الأهالي بالقوانين والحرية منة منهم ، وما حصل في إحدى الممالك إجراء القوانين على أي وجه من الوجوه المتقدّمة إلا أخذت في الترقي والثروة لانكفاف الظلم المؤذن بالخراب ، فتحسنت أحوالها ونمت سكانها وعمرت أرضها وكثرت صنائعها وانتشرت فيها المعارف وزادت إتقانا واختراعا وامتدّت تلك المملكة بسطوتها على من لم يجاريها فيما هي عليه ، وسرى العمل على ذلك النحو في جميع ممالك أوروبا تدريجا إلى أن عم جميعها ولم يبق منها الآن مخالفا لبقيتها إلا مملكة الروسيا بحيث يصح أن يقال إن جميع أوروبا كأنها مملكة واحدة على نمط واحد ، وغاية الإختلاف بينها إنما هو بزيادة الثروة والقوة والحضارة ، أما أصول هاته الأشياء فهي موجودة في الجميع.
__________________
(١) هو محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس الأدريسي الحسني الطالبي أبو عبد الله (٤٩٣ ـ ٥٦٠ ه). مؤرخ من أكابر علماء الجغرافيا. وفاته في سبتة على الأرجح. الاعلام ٧ / ٢٤ الوافي بالوفيات ١ / ١٦٣ معجم المطبوعات (٤١٤).