وهذا الهيجان لا تنفع فيه الآلة المسكنة إلا إذا كان شديدا ، وأما إذا خفيفا فلا.
ومن عجيب عوارض هذا النوع من الهيجان شدة السمع حتى كنت أسمع الشيء الخفيّ البعيد الذي لا يسمعه الحاضرون معي مع التأذي من شدة صوته عندي ، فضلا عما إذا كان الصوت قريبا مني ، حتى يلتزم من حضر عندي السكوت بل ربما تآذيت من صوتي نفسه وهكذا الشم ، فقبل حصول الهيجان كنت أشم ما لا يدركه أمثالي لكن وقت الهيجان يصيبني زكام مفرط ، وربما هاته الحالة لا يسكنها ولا مسكن الحقنة إلا بعد مدة ، وهي أشد عليّ من هيجان الوجع ، ولذلك كنت أستعمل عند تعطيل التعاهد بالآلة العلاجية شرب ماء الذهب المتقدم ذكره ، وقد قلت للحكيم عند وصفه هذا الدواء وأنه من مخترعات هذا العصر : «إن أكل الذهب للتقوي معلوم عندنا» ، وقد كان الإمام ابن عرفة (١) في المائة الثامنة والتاسعة يبرد كل يوم بندقيا ـ البندقي نوع من سكة الذهب منسوب إلى البندقية وزنه نحو نصف دينار ذهبا ـ على دجاجة ويطبخها جيدا ويأكلها ، فقال البندقي : كثير ، فقلت له : حيث أن الذهب غير محلول فلا يأخذ منه البدن إلا مقدار ما تهضمه المعدة وما عداه يذهب في الفضلة ، فقال : نعم ، وعلى كل حال فلهذا العصر فضل في الإقتصاد فلم يسعني إلا التسليم ، وهذا العلاج بالمعدن كنت أستعمله قبل السفر ثانيا ، لكن على ظاهر الجسد وذلك بأن يؤخذ شيء من أحد المعادن الخالص ويجعل منه نحو سوار ، فإن ظهر في المريض بلبسه نوع ملايم ديم عليه وإلا يبدل بمعدن آخر ، وأوّل من اكتشفه طبيب نمساوي ، ولم يلتفت إلى قوله إلى أن أصغى إليه الحكيم «شاركو» الفرنساوي ، وجرّبه فوجده صادقا فأعلن به من مجلس فن الطب بباريس وصار معمولا به.
غير أني وجدت فرقا بين الكيفية التي جربها لي الطبيب البارون «كستلنوفو» وبين ما فعله الطبيب بباريس ، فإن الأوّل كان يستعمل المعدن ويبقيه إن وافق وكل المعادن التي جربتها لم توافق سيما النحاس فإنه يحدث التحيير إلا الذهب فلما جربته لبسا خف التحير وسخنت أعضائي ، وكان العرق الذي يأتي من الألم حارا على خلاف ما كان من برده ، ولما أعلمت بذلك الحكيم «شاركو» أذن الطبيب المباشر وهو «فغرو» بأن يجرب المعادن ، فأعطاني ميزان القوة وقبضت عليه بجهدي وقيد الدرجة وكذلك علم ميزان النبض ، ثم أوّل ما بدأ به من المعادن معدن المغناطيس ، وهو على هيئة قطعة من حديد موضوع على مائدة فألصقه بذراعي الأيمن وجعل فاصلا بينه وبين البدن قطعة من ورق ، فما لبث نحو دقيقتين إلّا وحصل هيجان عظيم في المرض خشيت منه ، وكان تابعي معجلا باستعمال الحقنة للتسكين فنهاه الطبيب ، واستعمل الآلة الكهربائية الساكنة المار ذكرها فحصل السكون بفضل
__________________
(١) هو محمد بن محمد بن عرفة الورغمي أبو عبد الله (٧١٦ ـ ٨٠٣ ه) إمام تونس وعالمها ، مولده ووفاته فيها. الاعلام ٧ / ٤٣ نيل الإبتهاج (٢٧٤) الضوء اللامع ٩ / ٢٤٠ رقم الترجمة (٥٨٦) طبقات القراء للجزري ٢ / ٢٤٣ رقم الترجمة (٣٤٢٢).