إلى أن ينقرض أو يستولي عليه أجنبي آخر ، وحيث كانوا على تلك الصفة فالإستيلاء عليهم ولئن كان سهلا غير أنه لا تؤمن عواقبه.
أما أولا : فلأن الجيش إذا استقر هناك ربما سرت إليه طباع أهل الإقليم ، كما هو شأن الطبيعة البشرية من سريان الطباع بالمخالطة والملازمة ، فيقع بينهم التنافر الواجب التباعد عنه.
وأما ثانيا : فإذا غلب الجيش الإسلامي ولاة القطر الذين هم أجانب من الرومان ، لا يبعد أن يرجعوا إلى بني جنسهم ويعيدون الكرة على المسلمين ، وهؤلاء لا يمكن لهم الاعتماد على أهل القطر في إمدادهم وإعانتهم لما تقدّم من طبعهم ، وأنهم طوع الغالب كيفما كان وذلك لا يجدي معه رؤيتهم لعدل المسلمين واستقامة أمور دينهم ودنياهم لما في أصل الطباع من النفرة عن التعاون وميل كل لخويصة نفسه ، والحامل الديني وحده غير مجد لأنه يلزم له رسوخ وتخلق ومع ذلك قليل من يكفي له ذلك ، فقد قرر أبو إسحاق الشاطبي في موافقاته : «أن العلماء على ثلاثة أقسام : الأول : من يبلغ به العلم إلى درجة تصير النظرى في حقه ضروريا لاطلاعه على أسرار العلوم وتخلقه بها ، حتى يصير العلم له طبيعة راسخة يرجع إليها رجوعه إلى سائر الضروريات ، ولا يمكن له العمل على خلاف ذلك كما لا يمكن للإنسان العمل على خلاف الضروري ، وهذا القسم قليل ما هم.
والقسم الثاني : اطلع على أسرار العلم لكن إطلاعا محتاجا إلى المراجعة والتذكر والتدبر وهؤلاء لا يجرون على مقتضى العلم إلا بكلفة من خوف الوازع الظاهري ، غير أنهم ينقادون إليه بالتسليم وهو في حقهم خفيف فأدنى درجاته تؤثر المطلوب منهم.
والقسم الثالث : هو الذي لا يطلع على شيء من أسرار العلم وإنما يسمع تكاليفه وينقاد إليها بالتقليد البحت وهذا لا يحمل نفسه على مقتضاه إلا بالوازع الظاهري وهو القسم الأكثر والأغلب في الوجود ، ولهذا أقيم في الدين وازع الحكم ، ليحرس الدين الشامل لجميع أقسام التصرفات الدنيوية والأخروية ، ولا يقال إن أهل القسم الأوّل يلزم أن يكونوا معصومين ، وذلك لا يصح لأنا نقول تصدر منهم الخطيئة على وجه الغفلة كما تغفل الحواس في بعض الأحيان. هذا إجمال كلامه وأنى لأهل أفريقية إذ ذاك وبلوغ درجة القسم الأول هذا على فرض إسلامهم ، وأما إذا رضوا بالطاعة وضرب عليهم الخراج فالأمر أبين مع أن المنعة إذ ذاك للمسلمين وخط التجائهم بعيد جدا ، وهو جزيرة العرب حيث كانت مصر إذ ذاك في أول فتحها ولم يستقر قرارها ، وليس من المعقول الرغبة في الفتوح بالتهور.
وبما تقدم يندفع إشكال بين وهو كيف يتوقف سيدنا عمر رضياللهعنه عن بث الإسلام في أفريقية استنادا لمجرد ذلك التعليل وهو تفرق أهلها مع أن الأمر ببث الإسلام ليس بمشروط باتفاق قلوب أهل الإقليم ، ويؤيد ما قلناه : «إن سيدنا عثمان رضياللهعنه لما ولي الخلافة واستقر إذ ذاك أمر الإسلام في مصر وكان لجيش المسلمين قرب منعة