وعلم ما لا يعلمه غيره ، فطلب من الوالي عمل حسابه عما مضى وبعد إتمامه جاء بالدفاتر وبتلخيصها وعرضه على الوالي محمد باشا ، ورأيت في صفة الموطن بخط الوزير ابن أبي الضياف (١) ما نصه : «وقال له بمحضر الوزراء ورجال الدولة هذا حسابي قبضت في مدّة خدمتي ما هو مرقوم في هذا التلخيص ، وصرفت في المدّة ما هو مرقوم أيضا وكان المصروف أكثر وأنا غير طالب له ولم أدفعه من مالي وليس على دولتك المباركة دين ، فقال له بعض الحاضرين من الوزراء بديهة : أنا أوّل قادح في هذا الحساب ، ومن أين جاءت هاته الزيادة؟ فأجابه الوزير بلين وسياسة : لك أن تنظر في فصول القبض هل نقص منها شيء وفي فصول الدفع هل زاد فيها شيء وما وراء ذلك نتيجة أصابعي ولي أن أتطلبه لو استحللت الخيانة ولهذا أتيت بالدفاتر ليطلع عليها كل من يريد الإنتقاد فخجل القادح الخ».
والكاتب المذكور عالم بالبلاغة حيث ورى بقوله : «فخجل» أي خجل من الجواب لأنه قيل : إن المال من الأشياء التي لا تنمو بذاتها ، فالقسمة العقلية إما أن يكون من فصول المقبوض شيء لم يرسم ، كأن يكون المقبوض من الطوارىء التي لا تنضبط كالأخذ من العمال زيادة على الموظف ، أو تكون بعض وجوه المصروف لم تصرف حقيقة ، أو يكون المقدار الحقيقي منها دون ما رسم في الدفاتر ، أو يكون الدافع دفع من عنده ، أو اقترض وهذان الأخيران قد أقرّ الوزير بعدمهما وإقرار الإنسان ماض عليه فلزم بالضرورة أحد الوجوه السابقة ، ولعلها هي المرادة بقوله : «بأصابعي»
ثم أنه في مدّة محمد باشا لم تقع مظالم الرعية من العمال لما تقدّم من سيرة ذلك الوالي ، وإنما يقال أنه جعلت له حصص من المال والمصوغ جعلا من الجالبين لماء زغوان وبائعي المصوغ ليكون العقد بتلك المقادير ، وفي آخر مدّة الوالي المذكور لما رسخت قدمه حصل الأخذ للوزير من بعض العمال بدعوى أنه مع تشديد الوالي في قبض أيديهم لا بد أن يسرقوا ، وجعل السمسار رجلا يقال له خليفة السائس مشاركا لسعد بن عبيد مع التحذير من أن يظهر أدنى تشك من الرعايا ، وقد أدركت المضرات حذاق القطر حتى قال أحد العلماء قصيدة يستغيث بها القطب الصالح سيدي أحمد التجاني (٢) رضياللهعنه لما دهى القطر من تلك الأعمال مطلعها :
كادت تنيط رجاءها بالياس |
|
مهج فغوثا يا أبا العباس |
إلى أن قال :
__________________
(١) هو أحمد بن أبي الضياف بن عمر بن نصر حفيد المجذوب ابن الباهي العوني ، أبو العباس (١٢١٩ ـ ١٢٩١ ه). وزير تونسي ، كاتب ومؤرخ. مولده ووفاته بتونس. الأعلام ١ / ١٣٨ اليواقيت الثمينة (٧٧) شجرة النور الزكية (٣٩٤) وإيضاح المكنون ١ / ١٦.
(٢) هو أحمد بن محمد بن المختار بن أحمد الشريف التجاني ، أبو العباس (١١٥٠ ـ ١٢٣٠ ه). فقيه مالكي ملم بالأدب. توفي في فاس ، الأعلام ١ / ٢٤٥ وشجرة النور (٢٥٨).