عنابة ، فإنه إذا دخل إلى مراسي فرنسا لا يؤدي شيئا فيكون سببا في التزام التجار توجيه البضائع إلى عنابة وتبقى مراسي تونس خالية ، وزاد للمعترضين قوة في أن المقصد بذلك الطريق أمر سياسي أن الإتفاق فيه تم في أقرب وقت ، حتى أشاعوا أنه وقع من غير استشارة بقية الوزراء هذا مدار الإعتراضات ونحن نقص قصص ما وقع في النازلة وأحوال متعلقاتها ونكل الحكم فيها إلى المطالع.
وهو أنه في سنة ١٢٩١ ه قدمت شركة إنكليزية وطلبت منحة لإعمال طريق حديدية بين تونس ودخلة جندوبه في الجهة الغربية من القطر المعنية بأفريقية ، التي هي أهم الجهات في الفلاحة على ما تقدم بيانه في الفصل الأول من الباب الثاني من المقصد ، على أن تمر الطريق حذو بلد باجه وتصل إلى معدن دجبه المركب من الرصاص والفضة ، وتختص بتشغيله على أن يكون للحكومة قسط من دخله بعد طرح المصاريف ، فقسطها يكون من الربح وحيث كانت منافع طرق الحديد في الممالك من أعظم أسباب عمرانها على ما سيرد إن شاء الله في الخاتمة ، وكانت تونس من أحوج الأقطار إليها لعدم وجود الأنهر والترع التي تمكن بها المواصلة ، بل ولا مجرد الطرق الصناعية ، وكانت نتائج الزرع في الأماكن الخصبة يتعذر نقلها بل يستحيل زمن الشتاء والوحل ، وكان نقلها في زمن سهولة الطرق يكلف مصاريف باهظة ربما لا يوفي بخلاصها ثمن الحبوب عند بيعها ، حتى كان الشعير لا يجلب من تلك الأماكن لمراسي المملكة ولا لبلدان أسواقه لعدم وفاء ثمنه بأجرة حمله فضلا عن التبن ، فإن كلا منهما يترك في مكانه إلى أن يضيع على أصحابه ولا زال مثل ذلك إلى الآن في جبال ماطر وغيرها ، بل وكان جلب الحبوب من الأماكن الأجنبية في البحر أيسر وأرخص من جلبها من داخل القطر ، ورأيت في رسالة كابيزول القنسل الفرنساوي بثغر حلق الوادي من تونس التي ألفها في التعريف بأحوال القطر ما معناه : «إن هاته البلاد التي كانت تسمى بمخزن حبوب أوروبا في الزمن السالف ، ها هي الآن يجلب إليها القمح من خارج ويباع بأرخص مما يجلب من داخلها ، حتى كان ذلك سببا في تعطيل أكثر أراضيها وفقر أهلها» الخ. ولقد صدق في ذلك وكان تأليفه لتلك الرسالة في حدود سنة ١٢٨٠ ه التي مر تفصيل أهوالها ، فلما ذكر كان إحداث الطريق الحديدية ضروريا للقطر فبقي الكلام فيمن يصنعه والأمر منحصر في ثلاثة أوجه :
الأول : أن تصنعه الحكومة وقد علمنا مما مر أن أغلب ماليتها راجع للأجانب بسبب ديونهم ، وما بقي من دخلها إنما يوفي بضرورياتها التي لا مندوحة عنها ، فلا سبيل لها لأعمال الطريق المذكورة لما يلزمها من كثرة النفقات.
والوجه الثاني : أن يتولى عملها الأهالي وهذا أيضا إما متعذر أو صعب جدا لأن سابقية الفقر فيهم قد أخذت مأخذها وما تراجع لهم من بعد لم يكن موفيا بالمقصود وعلى تسليم اقتدارهم فإنهم لا يلتفتون إلى ذلك.