أما أولا : فلعدم معرفتهم بفوائد الشركات ، لأن مثل ذلك لا توفي به قدرة الواحد ، وقد علمنا أن فتح أبصارهم لمثل العلوم الرياضية والاقتصادية والمدنية إنما كان بعد ذلك التاريخ ، وعلى فرض حصول مبدأ التعليم من قبل فلا بد له من زمان ليرسخ ويعمل به.
وأما ثانيا : فإنهم لا يأمنون على إظهار أموالهم وما بالعهد من قدم قد رأوا نقض عهد الأمانة الملتزم به بعهد الله وشهادة الدولة العلية وسائر الدول الأجنبية ، وحرص دولة فرنسا في إتمامه ، ورأوا بأعينهم كيف جرى قتل النفوس وتعذيب الأبدان واستئصال الأموال ، فما هي قدرة الوزير وحده في حفظ حقوقهم وأمنهم وهل ذلك إلا موقت بوقت تصرفه ، على أنه من الضامن لهم في بقاء الوزير على ما هو عليه وهل هو إلا بشر قابل لتغير الأفكار ، وبهذا يعلم أيضا عدم إمكان حمل الأهالي غصبا على منفعتهم في ذلك الطريق من الوزير خير الدين ، ولأنه كان لهم فيه نفع لكنه يظلمهم بإتلاف أموالهم لما أشرنا إليه ، بل ولربما مع ما يتوقع من استيلاء الحكومة على مداخيل الطريق والتداخل في إدارته لا يدوم شغله كما حصل بالفعل في معمل الملف الذي كان أنشأه أحمد باشا ، ويؤيد ذلك ما حصل من الخلل في أشياء أسسها هو مما مر ذكره وسيأتي كيفية خلله ، فتعين حينئذ.
الوجه الثالث : في أعمال الطريق الحديدية ، وهو أعمالها بيد لها اقتدار على المال وتأمن عليه وليس ذلك إلا الأجانب ، ولما قدمت الشركة الإنكليزية المار ذكرها وطلبت تلك المنحة عقد الوزير عدة مجالس من بقية الوزراء والمستشارين وكان بعضها تحت رياسة الوالي نفسه ، وتفاوضوا في مصالحها مما مر ذكر بعضه واستقر الرأي على عقد الإتفاق مع تلك الشركة في إحداث الطريق المذكورة سيما وقد سبقت شركة إنكليزية لإحداث طريق بين الحاضرة وحلق الوادي ، وتمم الإتفاق على شروطه التي.
منها : إن للشركة أن تمد فروعا من الخط الأصلي يمينا وشمالا كل فرع طوله خمسون ألف مترو أي نحو خمسة وأربعين ميلا أينما أرادت.
ومنها : أنه إذا مضت سنة ولم تشرع الشركة في العمل يفسخ العقد ، فشرعت الشركة في جمع المال لذلك غير أنها لم تنجح لأن الإنكليزيين ليس لهم هم في تجارة تونس ولا في سياستها ولا يصرفون المال إلا بغلبة الظن في الربح ، وقد علموا أن الطرق الحديدية غالبا في أول أمرها تخسر وشاهدوا في طريق حلق الوادي عدم الربح الذي أطمعوهم فيه ، فبعد انقضاء الأجل طلبت الشركة أجلا ثانيا لعلها تتحوّل الرغبة فلم تحصل على شيء ، وآل أمرها أن طلبت من حكومة تونس أن تتعهد لها بربح خمسة في المائة على ما تصرفه ، فإن وفي دخل الطريق بذلك أو زاد فهو لها وإن نقص أو لم يحصل شيء فالحكومة تلتزم بإيفاء الخمسة في المائة أو أن الحكومة تدخل شريكة مع الشركة المذكورة بالربع من رأس المال ، ولا يخفى أن ذلك لا يتيسر لأن الوزير خير الدين على علم من ضعف مالية الحكومة ومن خسارة الطرق في أول أمرها ، ومن الشك في حصول الربح من المعدن ، ومن صعوبة