وهما : إما بقاء الوزير خير الدين في الخطة بدون القوانين لرفع ما يستطيعه بذاته ، أو أنه لا يبقى في الخطة إلا بوجود القوانين فاختار هو الوجه الأول بدعوى عدم إمكان الوجه الثاني ، وهاته الدعوى المستندة لما تقدم ذكره رجح عند البعض خلافها ، لأنه لو تيقن والي تونس في أول الأمر إصرار الوزير على عدم البقاء في الخطة إلا بوجود القوانين لكان يحصل المقصود وتدوم القوانين معمولا بها في الأقل مدة بقاءه ولا لوم عليه بعد انفصاله ، ومن بلغ المجهود حق له العذر.
وقد كنا اطلعنا على تحرير للوزير المذكور بعد انفصاله عن الخطة بتونس في الجواب عن الإعتراض بما ذكر ، فأثبتنا خلاصته هنا ليحكم المطالع بين الشقين وحاصله : أنه بلغنا أن أناسا لاموا على عدم تأسيسنا في مدة وزارتنا التنظيمات السياسية المعبر عنها بالكنستسيون ، التي كنا أوضحنا في كتابنا أقوم المسالك الأدلة النقلية والعقلية على لزوم تأسيسها وإجراء العمل بها ، ولما كان صدور مثل هذا اللوم منبأ عن عدم فهم من صدر منه لما كنا شرحناه في الكتاب المذكور من الأحوال التي تنبني عليها التنظيمات وجب إعادة الكلام على ذلك وبذلك يتضح الجواب عما ذكر فنقول : «إن تأسيس التنظيمات السياسية الحاملة على اتباع المصلحة قد شوهد أنها نشأت في الممالك المستقرة بها بإحدى طريقتين ، إحداهما : أن يكون تأسيسها من الراعي ، وثانيتها : أن تطلبها الرعية ، والصورة الأولى هي الممكنة في الممالك الإسلامية إذا انتبه الراعي لفوائد التنظيمات فيسعى بجد واجتهاد في تأسيسها وحمل الناس عليها مستعينا بالله وبأهل الدراية والمروءة حتى تدرك العامة منافعها ويتمسكوا بها ، ويحصل لمن تسبب فيها فخر وأجر من أسس ما يدوم به العدل الذي فضل الحكماء صاحبه على فاتح الأقاليم الكثيرة ، ووجه ذلك ظاهر وهو أن مصير الفتوحات المؤسسة على غير العدل إلى التقلص والإختلال ومصير المملكة ذات العدل إلى البسطة والإعتدال ، والحكيم من لاحظ العاقبة والمآل وعند ذلك تدوم معمولا بها إذا كان في العامة استعداد إلى فهمها وقبولها ، وبدون ما تقدم لا يمكن إجراء ما ذكر فيما علمت ، فلا يكفي لذلك معرفة الوزير وحده بمصالحها وميله إليها ولا نظن أحدا من رجال السياسة العارفين بأصول مبنى التنظيمات يخالفنا في هذا ، فكان الواجب على المعترضين أن يبحثوا أولا عن معرفة حال أمير تونس هل هو ممن يسعى في تأسيس ما ذكر على الوجه المذكور؟ وعن حال الإيالة هل فيها من يعتبر لحفظها وقبولها؟ وفي ظني أن كلا الأمرين لا يوجد منه ما يسوغ الإقدام على تأسيس التنظيمات وفي يقيني عدم نجاحه بدون ذلك كما أعطته التجربة ، فإن التنظيمات التي أسست في هذه المملكة سنة ١٢٧٧ ه المتقدم بيان أصولها الكافلة بتأمين السكان أبطلت تمشيتها مع الحلف على إجرائها بسعي الوزير واتباعه ، حتى آل أمر المملكة إلى ما قد رأيت من تصرفات الحكومة زمن وزارة السيد مصطفى وما نشأ عنها من المضار في النفوس والأعراض والأموال ولم يتعرض أحد لذلك بأدنى إنكار.