يفكرون في شيء واحد ، وإنما هم يفكرون بأشياء متباينة ، ومتعددة ، بعددهم جميعا. فنفس كل فرد منهم تخضع لفكرين متناقضين فصاحبها يفكر في حفظها ، وبقائها ، وكل من معه يفكرون في إتلاف هذه النفس من أجل حفظ وجودهم هم دونه.
وهكذا الحال بالنسبة لنفس كل فرد منهم ، وإذا فكر أحد منهم بحفظ نفوس الآخرين ، فإنما ذلك حين يرى فيه ضمانة لبقائه ، وحفظ نفسه هو أولا.
وذلك يوضح لنا أيضا : السر في أن هؤلاء لا يقاتلون المؤمنين إلا من وراء جدر ، أو في قرى محصنة ، حسبما أوضحته الآية الشريفة.
وما ذلك إلا لأن هؤلاء لا يعقلون معنى الحياة وأسرارها ، ولا حكمة الخلق وأهداف الوجود. فإن ذلك إنما جاء وفق المعايير والأحكام العقلية والفطرية ، فهو لا يشذ عنها ، ولا يختلف ولا يتخلف عن أحكامها ومقتضياتها.
ولو أنهم فكروا وأطلقوا عقولهم من عقال الهوى ، لأدركوا ذلك كله ، ولتغيرت نظرتهم للكون وللحياة ، ولعرفوا بعضا من أسرار الخلق والوجود ، ولتبدلت المعايير والقيم التي كانت تستند إلى أوهام وخيالات ، وتؤكدها وتفرضها الفطرة الخالصة عن الشوائب ، والبعيدة عن تجاذب الأهواء.
إذا .. فعدم التزامهم بهدى العقل ، ورفضهم الانصياع لأحكامه ، هو أصل البلاء ، وسبب العناء ، وهو ما أكدته الآية الكريمة ، التي أرجعت حالتهم التي هي غاية خزيهم وذلهم إلى ذلك ، فهي تقول : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (١).
__________________
(١) الآية ١٤ من سورة الحشر.