وقال سبحانه : (قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (١).
وعلى هذين الأساسين ربما يتصور أنّ تعلق ذلك العلم بكل الأشياء عموما ، والأفعال الاختيارية للإنسان خصوصا ، يجعل الإنسان مجبورا مضطرا متظاهرا بالحرية والاختيار ، لأنه سبحانه إذا كان يعلم من الأزل ، أنّ هذا الشخص سيرتكب الذنب الفلاني في الساعة المعينة ، فبما أنّ العلم الإلهي لا يتخلف عن معلومه يجب أن يكون الشخص مصدرا لهذا الذنب ، ولا يستطيع أن يتخلف عنه بأية قوة وقدرة ، بل لا يستطيع أن يغير من كميته وكيفيته ، إذ تخلفه نفس تخلف علم الله عن الواقع ، وصيرورة علمه جهلا تعالى الله عنه.
أقول : إنّ هذا المقام هو المزلقة الكبرى للسطحيّين الذين مالوا إلى الجبر ، لأجل كون أفعال العباد متعلقة لعلمه تعالى ، غير متخلفة عن متعلقها ولكنهم لو وقفوا على كيفية تعلق علمه بصدور أفعال العباد منهم ، لرجعوا عن هذا الحكم الخاطئ.
والجواب عن ذلك : إنّ علمه سبحانه لم يتعلق بصدور أي أثر من مؤثره على أي وجه اتفق ، وإنما تعلق علمه بصدور الآثار عن العلل مع الخصوصية الكامنة في نفس تلك العلل. فإن كانت العلة علة طبيعية فاقدة للشعور والاختيار أو واجدة للعلم فاقدة للاختيار ، فتعلق علمه سبحانه بصدور فعلها وأثرها عنها بهذه الخصوصية ، أي أن تصدر الحرارة من النار من دون أن تشعر فضلا عن أن تريد ، ويصدر الارتعاش من الإنسان المرتعش عن علم ولكن لا بإرادة واختيار ، فالقول بصدور هذه الظواهر عن عللها بهذه الخصوصية يستلزم انطباق علمه على الواقع وعدم تخلفه عنه قيد شعرة.
وإن كانت العلّة عالمة وشاعرة ومريدة ومختارة كالإنسان ، فقد تعلق علمه على صدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرية. فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية ، لكان علمه مطابقا للواقع
__________________
(١) سورة الطلاق : الآية ١٢.