واستدلّ اليهود على امتناع النسخ في التكوين (١) بأنّ قلم التقدير والقضاء إذا جرى على الأشياء في الأزل استحال أن تتعلق المشيئة بخلافه.
وبعبارة أخرى : ذهبوا إلى أنّ الله قد فرغ من أمر النظام ، وجف القلم بما كان ، فلا يمكن لله سبحانه محو ما أثبت وتغيير ما كتبه أوّلا.
ويردّ عليهم سبحانه في بيان إمكان هذا النسخ في مجال التكوين بالآية التالية : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٢). وعلى ذلك فإنّ الله سبحانه باسط اليدين في مجال التكوين والتشريع ، يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ويثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء لا يمنعه من ذلك مانع. وما تتخيله اليهود ، وما انتحلوه من أنّ الله قد فرغ من الأمر وانتهى من الإيجاد والتكوين فصار مكتوف اليدين ، مسلوب القدرة ، فتردّه هذه الآية وما سبقها من الآيات والأحاديث. وهذا هو القرآن الكريم يصرّح بكونه تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٣).
ويقول أيضا : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٤). والآية مطلقة غير مقيدة بزمان دون زمان. ولأجل ذلك ينسب إلى نفسه كل ما يرجع إلى الخلق والإيجاد ويبين ذلك بصيغ فعلية استقبالية دالة على الاستمرار ، وناصّة على أنّ الفيض والخلق والإيجاد والتدبير بعد مستمر.
يقول سبحانه : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ، وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) (٥).
__________________
(١) الذي يراد منه في مورد الإنسان أنّه مخيّر في حياته ، غير مسيّر ، وأنّ له تغيير مصيره بتغييره مسيره على ما تقدّم.
(٢) سورة الرعد : الآية ٣٩.
(٣) سورة الرّحمن : الآية ٢٩.
(٤) سورة الأعراف : الآية ٥٤.
(٥) سورة النور : الآية ٤٣.