ثم إنّ القاضي يرد على أدلة الأشاعرة التي نقلناها عنهم (١).
وأنت خبير بأنّ هذه الدلائل على فرض تماميتها ترد القول بالجبر أي ارتباط أفعال العباد بالله سبحانه وانقطاعها عن العبد ولا تثبت العكس ، وأنّ فعل العبد مخلوق للعبد لا صلة له بنحو من الأنحاء بالله سبحانه كما هو مدّعى المعتزلة ، ولأجل ذلك هنا منهج ثالث وهو الأمر بين الأمرين كما سيوافيك :
وفي الحقيقة ، إنّ هذه الطائفة تنكر التوحيد الأفعالي الذي ركّز عليه النقل والعقل ، وهو أنّه لا خالق إلّا الله سبحانه.
توضيح ذلك : إنّ دافع المعتزلة إلى القول بالتفويض هو الحفاظ على وصف من أوصافه سبحانه وهو «العدل». فلما كان العدل عندهم هو الأصل والأساس في سائر المباحث ، عمدوا إلى تطبيق مسألة أفعال العباد عليه فخرجوا بهذه النتيجة : إنّ القول بكون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه ينافي عدله. ولجئوا بعدها إلى القول بأنها من صنع العبد وليس لله فيها أي صنع. ولمّا كان الأصل عند الأشاعرة هو التوحيد الأفعالي وأنه لا مؤثر استقلالا ولا تبعا غيره سبحانه ، عمدوا إلى تطبيق هذه المسألة على أساسهم. فجعلوا أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه وليس للعبد فيها صنع.
فالطائفتان لم تتدبرا في مسألة أفعال العباد تدبرا عميقا ، بل جعلتا النظر فيها فرعا للنظر في الأصل الذي تبنتاه. وقد غفلتا عن أنّ هناك طريقا ثالثا يجتمع فيه الأصلان : التوحيد الأفعالي ووصف العدل ، مع القول بالاختيار ، كما سيتضح ذلك عند البحث عن المنهج الثالث للاختيار. فلنعطف عنان الكلام إلى الأصل الفلسفي الذي بني عليه القول بتفويض أفعال العباد إلى أنفسهم.
__________________
(١) لاحظ شرح الأصول الخمسة ، ص ٣٣٢ و ٣٣٦ و ٣٤٤ و ٣٤٥ و ٣٥٥ و ٣٧٢.