النفس في المعاني انتقالا بالقصد ، وكأنه احترز بالقصد عن الحدس (١) وعن سائر حركاتها ، لا عن قصد وبالجملة هو بمنزلة الجنس للنظر على ما قال إمام الحرمين (٢) : أن الفكر قد يكون لطلب علم أو ظن فيسمى نظرا ، وقد يكون كأكثر حديث النفس ، فسقط اعتراض الآمدي (٣) بأن لفظ الفكر زائد لأن باقي الحد مغن عنه ، واعتذاره بأنه لم يجعله جزءا من الحد بل كأنه قال : النظر الفكر وهو الذي يطلب له علم أو ظن ، وإن كان صحيحا من جهة أن الفكر في الاصطلاح المشهور كالمرادف للنظر لا أعم منه ، ليمتنع تفسيره بما يطلب به علم أو ظن. لكنه بعيد من جهة أن العبارة لا تدل عليه أصلا ، ولم يعهد في التعريفات أن يقال الإنسان البشر الذي هو حيوان ناطق مثلا ، على أن مجرد قولنا الذي يطلب به علم أو ظن لا يصلح تفسيرا للنظر والفكر إلا بتكلف ، وأما اعتراضه بأن الظن قد لا يكون مطابقا وهو جهل يمتنع أن يكون مطلوبا فمدفوع ، بأن المطلوب هو الظن من حيث إنه ظن ، وهو لا يستلزم طلب الأخص أعني غير
__________________
(١) الحدس في اللغة : الظن والتخمين والتوهم في معاني الكلام والأمور والنظر الخفي. والحدس الذي اصطلح عليه الفلاسفة القدماء مأخوذ من معنى السرعة في السير ، قال ابن سينا : الحدس حركة إلى إصابة الحد الأوسط إذا وضح المطلوب ، أو إصابة الحد الأكبر إذا أصيب الأوسط ، وبالجملة سرعة الانتقال من معلوم إلى مجهول (النجاة ص ١٣٧). وقال الجرجاني : هو سرعة انتقال الذهن من المبادي إلى المطالب. والحدس عند بعض الإشراقيين : هو ارتقاء النفس الإنسانية إلى المبادي العالية حتى تصبح مرآة مجلوة تحاذي شطر الحق. فتمتلئ من النور الإلهي الذي يغشاها.
(٢) إمام الحرمين : هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني أبو المعالي. ركن الدين الملقب بإمام الحرمين. من أصحاب الشافعي ، ولد في جوين من نواحي نيسابور ورحل إلى بغداد ، وذهب إلى المدينة. له مصنفات كثيرة منها : غياث الأمم والتباث الظلم والعقيدة النظامية والشامل في أصول الدين. توفي سنة ٤٧٨ ه.
وعبارته التي ذكرها ، النظر في اصطلاح الموحدين : هو الفكر الذي يطلب به من قام به علما أو غلبة ظن إلخ.
(راجع كتاب الارشاد ص ٣).
(٣) هو علي بن محمد بن سالم التغلبي أبو الحسن ، سيف الدين الآمدي. أصولي باحث أصله من آمد (ديار بكر) ولد بها وتعلم في بغداد والشام ، انتقل إلى القاهرة فدرس بها واشتهر ، نسبه الفقهاء إلى فساد العقيدة والتعطيل ومذهب الفلاسفة. من كتبه : الإحكام في أصول الأحكام ، وأبكار الأفكار في علم الكلام وألباب الألباب ودقائق الحقائق. توفي سنة ٦٣١ ه.