ثبت جواز الاكتفاء بالتقليد في حق البعض فهو لا ينافي وجوب المعرفة بالنظر والاستدلال في الجملة. هذا والحق أن المعرفة بدليل إجمالي به (١) يرفع الناظر عن حضيض التقليد فرض عين لا مخرج عنه لأحد من المكلفين ، وبدليل تفصيلي يتمكن معه من إزاحة الشبه وإلزام المنكرين ، وإرشاد المسترشدين فرض كفاية ، لا بدّ من أن يقوم به البعض.
الثالث : أنا لا نسلم أن المعرفة الكاملة لا تحصل إلا بالنظر ، بل قد تحصل بالتعليم على ما يراه الملاحدة ، أو بالإلهام على ما يراه البراهمة (٢) أو بقول الإمام المعصوم على ما يراه الشيعة (٣) أو بتصفية الباطن بالرياضات والمجاهدات ، على ما يراه المتصوفة (٤).
والجواب : أنا نعلم بالضرورة أن تحصيل غير الضروري من العلوم يفتقر إلى نظر ما ظاهر أو خفي ، أما التعليم فظاهر ، لأنه ليس إلا إعانة للغفل بالإرشاد
__________________
(١) سقط من (أ) لفظ (به).
(٢) الديانة العظمى في الهند تسمى «الهندوسية أو الهندوكية وقد تمثلت فيها تقاليد الهند وعاداتهم وأخلاقهم وأطلق عليها «البرهمية» ابتداء من القرن الثامن قبل الميلاد نسبة إلى (براهما) وهو القوة العظيمة السحرية الكامنة التي تطلب كثيرا من العبادات كقراءة الأدعية وإنشاد الأناشيد وتقديم القرابين. ومن (براهما) اشتقت الكلمة (البراهمة) لتكون علما على رجال الدين الذي كان يعتقد أنهم يتصلون في طبائعهم بالعنصر الإلهي وهم لهذا كانوا كهنة الأمة لا تجوز الذبائح إلا في حضرتهم وعلى أيديهم ، (راجع فلسفة الهند القديمة. محمد عبد السلام. ٢٥٦).
(٣) الشيعة : الذين شايعوا عليا عليهالسلام على قتال طلحة والزبير وعائشة ومعاوية والخوارج وكانوا في حياة علي رضي الله عنه ثلاث فرق الأولى : وهم الجمهور الأعظم يرون إمامة أبي بكر وعمر وعثمان إلى أن غير السيرة وأحدث الأحداث. والثانية : أقل من الأولى عددا يرون الإمام بعد الرسول صلىاللهعليهوسلم عليا رضي الله عنه. ومن هذا نعلم أن أكثر الشيعة لا يقدمون عليا على سائر أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ويفضلونه على عثمان.
(٤) التصوف : قال : أبو بكر الكتاني : التصوف خلق فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الصفاء. ويقول أبو الحسين النووى : ليس التصوف رسما ولا علما ولكنه خلق. لأنه لو كان رسما لحصل بالمجاهدة ، ولو كان علما لحصل بالتعليم ولكنه تخلق بأخلاق الله.
(راجع المنقذ من الضلال تحقيق د. عبد الحليم محمود. ص ١٧٩).