الأول : أن وجوب المعرفة فرع إمكان إيجابها ، وهو ممنوع لأنه إن كان للعارف كان تكليفا بتحصيل الحاصل وهو محال ، وإن كان لغيره كان تكليفا للغافل (١) وهو باطل. والجواب أن إمكانه ضروري ، والسند مدفوع بأن الغافل من لم يبلغه الخطاب أو بلغه ولم يفهمه ، لا من لم يكن عارفا بما كلف بمعرفته ، وتحقيقه. إن المكلف بمعرفة أن للعالم صانعا قديما متصفا بالعلم والقدرة مثلا يكون عارفا بمفهومات هذه الألفاظ ، مكلفا بتحصيل هذا التصديق ، وتصور تلك المفهومات ، بقدر الطاقة البشرية.
الثاني : أنا لا نسلم قيام الدليل على وجوب المعرفة ، أما النص مثل قوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) (٢) ...
فلأنه ليس بقطعي الدلالة إذ الأمر قد يكون لا للوجوب ، وأما الإجماع فلأنه ليس قطعي السند (٣) إذ لم ينقل بطريق التواتر ، بل غايته الآحاد ، فللخصم أن يمنعه بل يدعي الإجماع على أنه يكفي التصديق ، علما كان أو ظنا أو تقليدا ، فإن الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم كانوا يكتفون من العوام بالتقليد الانقياد ، ولا يكلفونهم التحقيق والاستدلال : والجواب : أن الظن كاف في الوجوب الشرعي ، على أن الإجماع عليه متواتر إذ بلغ ناقلوه في الكثرة حدا يمتنع تواطؤهم به على الكذب ، فيفيد القطع ، وما ذكر من الإجماع على الاكتفاء بالتقليد فليس كذلك ، وإنما هو اكتفاء بالمعرفة الحاصلة من الأدلة الإجمالية ، على ما أشير إليه بقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (٤). من غير تلخيص العبارة في ترتيب المقدمات ، وتحقيق شرائط الإنتاج ، وتحرير المطالب بأدلتها ، وتقرير الشبه بأجوبتها ، على أنه لو
__________________
(١) في (ب) للعاقل بدلا من الغافل.
(٢) سورة محمد آية رقم ٩.
(٣) سند فلان سند أي معتمد ، وسند إلى الشيء من باب دخل ، واستند إليه بمعنى ، وأسند غيره.
والإسناد في الحديث رفعه إلى قائله.
(٤) سورة الزمر آية رقم ٣٨.