مم نبتدئ من آيات الكون :
نبتدئ بأنفسنا فهي أقربها إلينا ، نبتدئ يا مفضل بذكر خلق الإنسان فاعتبر به ، فأول ذلك ما يدبر به الجنين من الرحم وهو محجوب في ظلمات ثلاث : ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء ولا دفع أذى ولا استجلاب منفعة ولا دفع مضرة ، فإنه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذو الماء النبات ، فلا يزال ذلك غذائه حتى إذا كمل خلقه واستحكم بدنه وقوي أريحه على مباشرة الهواء وبصره على ملاقات الضياء هاج المطلق بأمه فأزعجه أشد ازعاج وأعنقه حتى يولد.
وإذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم أمه إلى ثدييها فانقلب الطعم واللون إلى ضرب آخر من الغذاء وهو أشد موافقة للمولود من الدم فيوافيه في وقت حاجته إليه ، فحين يولد قد تلمظ (أخرج لسانه) وحرك شفتيه طلبا للرضاع فهو يجد ثديي أمه كالإداوتين المعلقتين لحاجته إليه ، فلا يزال يغتذي باللبن ما دام رطب البدن رقيق الأمعاء ليس الأعضاء حتى إذا تحرك واحتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتد ويقوي بدنه طلعت له الطواحن من الأسنان والأضراس ليمضغ به الطعام فيلين عليه ويسهل له اساغته فلا يزال كذلك حتى يدرك ، فإذا أدرك وكان ذكرا طلع الشعر في وجهه ، فكان ذلك علامة الذكر وعزّ الرجل الذي به يخرج عن حد الصباء شبه النساء ، وإن كانت أنثى يبقى وجهها نقيا من الشعر تبقى لها البهجة والنضارة التي تحرك الرجال لما فيه من دوام النسل وبقائه.
فهل ترى يمكن أن يكون كل ذلك بالإهمال (أو الصدفة) ، فإن كان الإهمال يأتي بمثل هذا التدبير فقد يجب أن يكون العمد والتقدير يأتيان بالخطإ والمحال لأنهما ضد الإهمال ، فهذا فظيع من القول وجهل من قائله ، لأن الإهمال لا يأتي بالصواب والتضاد لا يأتي بالنظام تعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيرا.