القول الرابع : ما عن بعض الأعلام على ما في كتاب المحاضرات (١) ، ومحصّل كلامه: أنّ حقيقة الوضع عبارة عن التعهّد بإبراز المعنى الذي تعلّق قصد المتكلّم بتفهيمه بلفظ مخصوص ، فكلّ واحد من الأفراد من أهل أيّ لغة كان متعهّدا في نفسه ، بأنّه متى أراد تفهيم معنى خاصّ أن يجعل مبرزه لفظا مخصوصا ، مثلا : التزم كلّ واحد من أفراد الامّة العربيّة بأنّه متى قصد تفهيم جسم سيّال بارد بالطبع أن يجعل مبرزه لفظ «الماء» وهكذا.
وممّا يدلّنا على ذلك بوضوح وضع الأعلام الشخصيّة ، فإنّ كلّ شخص إذا راجع وجدانه يظهر له أنّه إذا أراد أن يضع اسما لولده ـ مثلا ـ يتصوّر أوّلا ذات ولده ، وثانيا لفظا يناسبه ، ثمّ يتعهّد في نفسه بأنّه متى قصد تفهيمه يتكلّم بذلك اللفظ ، وليس هاهنا شيء آخر ما عدا ذلك ، فليس الوضع هو القول بأنّه وضع هذا اللفظ بإزاء هذا المعنى ، بل هو مبيّن للوضع والتعهّد النفساني.
ومن ذلك تبيّن ملاك أنّ كلّ مستعمل واضع حقيقة ، وأمّا إطلاق الواضع على الجاعل الأوّل دون غيره فلأسبقيّته في الوضع لا لأجل أنّه واضع في الحقيقة دون غيره.
ثمّ إنّ الوضع بذلك المعنى الذي ذكرناه موافق لمعناه اللغوي أيضا ؛ لأنّه كان في اللغة بمعنى الجعل والإقرار ، ومنه وضع اللفظ ، ومنه وضع القوانين في الحكومات الشرعيّة والعرفيّة ، فإنّه يكون بمعنى التزام تلك الحكومة بتنفيذها في الامّة.
وفيه : أوّلا : مع أنّ كون المستعمل واضعا مخالف للمرتكز الذهني فهو مخالف للواقع أيضا ؛ إذ الوجدان أقوى شاهد بأنّ الأب والمخترع والمصنّف أحقّ
__________________
(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٤٤ ـ ٤٩.