وأشار قدسسره إلى نكتة في آخر كلامه والأجود ذكرها هاهنا لتوضيح مراده ، ومحصّل كلامه فيها : ولقد أجاد أهل العربيّة عند ما عبّروا في مقام التفسير عن المفاهيم الحرفيّة بأنّ كلمة «في» للظرفيّة ، ولم يقولوا أنّ «في» هي الظرفيّة ، كما هو ديدنهم في مقام التعبير عن المفاهيم الاسميّة ، وهذا دليل على أنّه لا يكون للحروف معنى مع قطع النظر عن متعلّقاتها. فظهر أنّ المعاني الاسميّة تخطر في الذهن عند التكلّم بها ، سواء كانت مفردة أم في ضمن تركيب كلامي ، ولكن لمّا لم يكن بينها رابطة ذاتيّة توجب ربط بعضها ببعض دعت الحاجة في مقام الإفادة والاستفادة إلى روابط تربط بعضها مع البعض الآخر ، وليست تلك الروابط إلّا الحروف وتوابعها ، فإنّها موضوعة لإيجاد المعنى الربطي بين المفاهيم الاسميّة في التراكيب الكلاميّة ، فلولا وضع الحروف لم توجد رابطة بين أجزاء الكلام أبدا ، بداهة أنّه لا رابطة بين مفهوم «زيد» ومفهوم «الدار» في أنفسهما ؛ لأنّهما مفهومان متباينان بالذات ، ولا بدّ من رابط يربط أحدهما بالآخر ، وليس إلّا كلمة «في» ، كما أنّ كلمة «من» رابط بين المبتدأ به والمبتدأ منه ، وهكذا ، فتبيّن أنّ المعاني الحرفيّة معان إيجاديّة ، وليس لها واقع في وعاء الذهن والخارج وعالم الاعتبار ما عدا عالم الاستعمال.
ونظيرها صيغ العقود والإيقاعات بناء على ما ذهب إليه المشهور من أنّها آلات وأسباب لإيجاد مسبّباتها كالملكيّة والزوجيّة والرقّيّة ونحوها ، ولكنّ الفرق بينها وبين المقام من ناحية اخرى ، وهي : أنّ المعاني الإنشائيّة كالزوجيّة ـ مثلا ـ مستقلّة في عالم المفهوم دون المعاني الحرفيّة هذا أوّلا.
وثانيا : أنّ المعاني الإنشائيّة موجودة في عالم الاعتبار دون المعاني الحرفيّة ، فإنّ وعاءها عالم الاستعمال فقط ، بل كان حال المعاني الحرفيّة في قبال المعاني