حينئذ لكلمة «من» معنى الابتدائيّة يلزم التجوّز في الاستعمال ، وهو كما ترى ، فانحصر أن يكون الدال عليها هي الحروف ، ومعلوم أنّ دلالتها عليها ليست إلّا من جهة وضعها بإزائها ، فبطلان هذا القول من الواضحات الأوّليّة.
القول الثالث : ما اختاره المحقّق النائيني قدسسره (١) وهو : أنّ المعاني الحرفيّة والمفاهيم الاسميّة متباينان بالذات والحقيقة ؛ إذ المفاهيم الاسميّة مفاهيم إخطاريّة لها تقرّر وثبوت في عالم المفهوميّة ، ولها استقلال ذاتا في ذلك العالم ، وأمّا المعاني الحرفيّة فهي معان إيجاديّة حين الاستعمال ، ولا تقرّر لها في عالم المفهوميّة ولا الاستقلال.
بيان ذلك : أنّه كما أنّ الموجودات في عالم العين على نوعين ـ أحدهما : ما يكون له وجود مستقلّ بحدّ ذاته كالجواهر بأنواعها ، فإنّ وجودها لا يحتاج إلى موضوع محقّق في الخارج. وثانيهما : ما يكون له وجود غير مستقلّ ومتقوّم بالموضوع كالمقولات التسع العرضيّة؛ إذ لا يعقل تحقّق عرض بدون موضوع يتقوّم به ـ فكذلك الموجودات في عالم الذهن على نوعين :
أحدهما : ما يكون له استقلال بالوجود في عالم المفهوميّة والذهن كمفاهيم الأسماء بجواهرها وأعراضها ، فإنّ مثل مفهوم الإنسان والسواد والبياض يحضر في الذهن بلا حاجة إلى معونة خارجيّة.
وثانيهما : ما لا استقلال له ، بل هو متقوّم بالغير في ذلك العالم كمعاني الحروف ؛ إذ لا استقلال لها في أيّ وعاء من الأوعية التي فرض وجودها فيها لنقصانها في حدّ ذاتها ، ولذا إن أطلقت كلمة «من» وأمثال ذلك وحدها من دون ذكر متعلّقاتها لا يحضر منها شيء في الذهن.
__________________
(١) فوائد الاصول ١ : ٣٧.