والتحقيق : أنّ هذا البيان وإن كان صحيحا ولكنّه ليس بكامل ؛ إذ يصحّ السؤال عن منشأ الإرادة التي تكون واقعيّة من الواقعيّات النفسانيّة ؛ لكونها أمر حادث ومسبوقة بالعدم ، ويمكن أن يقال : إنّ العامل المؤثّر في تحقّق الإرادة أمر غير اختياري ولذا لا بدّ لنا من ذكر متمّم لهذا البيان بأنّ أفعال الإنسان وأعماله قد تكون جوارحيّة وقد تكون جوانحيّة ، أمّا الأعمال الجوارحيّة فبعضها اختياري وبعضها غير اختياري كحركة يد المرتعش ، والفارق بينهما أنّ العمل الاختياري مسبوق بالإرادة بخلاف العمل الاضطراري.
وأمّا الأعمال الجوانحيّة والأوصاف النفسانيّة ـ كالإرادة ـ فلا بدّ لها من المقدّمات والمبادئ مثل التصوّر والتصديق بالفائدة ... ولا شكّ في أنّ التصوّر أيضا واقعيّة قائمة بالنفس يحتاج في وجوده إلى شخص متصوّر وشيء متصوّر ، فهل هو اختياري أم لا؟
والقول بعدم اختياريّته خلاف الوجدان ، فإنّ الاستاذ إذا أمر تلامذته بتهيئة العناوين الفقهيّة لأخذ واحد منها لغرض التحقيق حوله يكون مختارا في تصوّرها واختيار واحد منها بعد إتيانهم بها.
وإن قلنا : باختياريّته فما معنى اختياريّته؟ هل تجري هنا أيضا القاعدة المذكورة بأنّ كلّ فعل اختياري لا بدّ وأن يكون مسبوقا بالإرادة؟ والوجدان يأبى ذلك ، فلا محالة تكون القاعدة المذكورة محدودة بالأعمال الجوارحيّة ، وأمّا اختياريّة التصوّر فتكون بمعنى عناية الباري بحصّة من خلّاقيّته إلى النفس الإنسانيّة بمقتضى قوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)(١) ، والنفس تقدر على أن تتصوّر بالقدرة الإلهيّة التي أعطاها الباري ، وهكذا التصديق بالفائدة فهو أمر
__________________
(١) الحجر : ٢٩.