الواحدية بخلاف حال الملأ الأعلى ، فإنّ من خلق منهم بصفة القهر لا يقدر على اللطف وبالعكس (أَسْتَكْبَرْتَ) أي : أعرض لك التكبر والاستنكاف (أَمْ كُنْتَ) عاليا عليه ، زائدا في المرتبة؟ فأجاب المحجوب : بأني عال خير منه في الأصل لعدم اطلاعه على حقيقته المجرّدة واطلاعه على بشريته ، ولا شك أن الروح الحيواني الناري الذي خلق منه اللعين أشرف من المادة الكثيفة البدنية ولكن الاحتجاب عن الجمعية الإلهية واللطيفة الروحانية بعث اللعين على الآباء حتى تمسك بالقياس وعصى الله في سجود الناس.
والرجيم واللعين من بعد عن الحضرة القدسية المنزّهة عن المواد الرجسية بالانغماس في الغواشي الطبيعية والاحتجاب بالكوائن الهيولانية ، ولهذا وقّت اللعن بيوم الدين وحدّد نهايته به ، لأن وقت البعث والجزاء هو زمان تجرّد الروح عن البدن ومواده ، وحينئذ لا يبقى تسلطه على الإنسان وينقاد ويذعن له في الوقت المعلوم الذي هو القيامة الكبرى فلا يكون ملعونا كماقال عليهالسلام : «إلا أن شيطاني أسلم على يدي». والإنظار للإغواء واللعن ينتهيان إلى ذلك الوقت ، لكن الذين أخلصهم الله لنفسه من أهل العناية عن شوب الكدورات النفسية وحجب البشرية والأنانية ، وصفّى فطرتهم عن خلط ظلمة النشأة لا يمكنه إغواؤهم البتة في البداية أيضا ، فكيف في النهاية؟. واللعن إن ارتفع بإسلامه وانقياده هناك لكن لزمه كونه جهنميا لملازمته الطبيعة الهيولانية والمادة الجسمانية فلا يتجرد أصلا وإن كان قد يرتقي إلى سماء العقل والأفق الروحانية بالوسوسة والإلقاء ويتصل في جنة النفس بآدم عند الإغواء ولا يزال يطرد عن ذلك الجناب (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ).
وإنما أقسم على الإغواء بعزّته تعالى لأنه مسبّب عن تعزّزه بأستار الجلال وسرادقات الكبرياء ، وتمنعه عن إدراك إبليس لفنائه بسحب الأنوار. وأقسم الله تعالى في مقابلته بالحق الثابت الواجب الذي لا يتغير على إملائه جهنم منه ومن أتباعه لوجود ذلك التعزز وملازمة هؤلاء جهنم دائما أبدا على حاله لا يتغير ولا يتبدّل ، لأن تجرّد المجرّد بالذات وتعلّق المتعلق بالطبع ، أمر تقتضيه الذوات والأعيان والحقائق في الأزل غير عارض فلا يزال كذلك أبدا.
[٨٦ ـ ٨٨] (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))
(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) ولا غرض لي في ذلك ، فإن أقوال الكامل المحقق بالحق مقصودة بالذات غير معلّلة بالغرض (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أي : المتصنعين الذين ينتحلون الكمالات ويظهرون بأنفسهم وصفاتها ، ويدعون كمالات الله لأنفسهم ، بل فنيت عن نفسي وصفاتها ، فالله القائل بلساني (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) عند القيامة الصغرى أو الكبرى لظهور تأويله حينئذ.