أولا محافظة كماله ثم تكميل المستكملين ، إذ العمل إنما هو من الأمور النسبية فربما كان صالحا بالنسبة إلى أحد سيئا بالنسبة إلى غيره ، كما قال : «حسنات الأبرار سيئات المقرّبين». ولهذا قال : (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي : أولادي الحقيقية سواء كانوا صلبية أو لا لأن علمه الصالح الذي هو التكميل وتربية المريدين لا ينجع إلا بعد تهيء استعدادهم والصلاح في أعمالهم وأحوالهم وذلك من فيضه الأقدس ، ولو لم يكن هذا الصلاح والقبول التام الذي لا يكون إلا من عند الله لما كان للإصلاح والتكميل والإرشاد أثر كما قال : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (١) وهما ، أي : محافظة الكمال بالشكر بالقيام بحق الملهم بالطاعات والتكميل بالإرشاد ملاك العمل في الاستقامة ووظيفة المتحقق بالوجود الحقاني في مقام البقاء (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) من ذنب رؤية الفناء وهذه التوبة هي التي تاب بها موسى عليهالسلام عند الإفاقة كما قال تعالى : (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) (٢) (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المنقادين المستسلمين في سلك العباد لمكان الاستقامة (أُولئِكَ) الموصوفون بتلك التوبة والاستقامة هم (الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) بظهور آثار تربيتهم وحسن هدايتهم في مريديهم لأن التكميل أحسن أعمالهم ، ألا ترى أن كل من لم يثبت على طريق المتابعة ولم يتشدّد في حفظ السنة من الكمل لم يكن له أتباع ولم يقم منه كامل لخلله في الاستقامة واتكاله على حاله من الكرامة وذلك علامة عدم قبول عمله الصالح. وهؤلاء لما قاموا بشكر نعمة الكمال قبل عملهم (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) التي هي بقايا صفاتهم وذواتهم بالمحو الكلي والطمس الحقيقي في مقام التمكين فلا يقعون في ذنب رؤية الفناء ولا تلوين ظهور الإنية والأنانية (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) المطلقة (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) حيث قال : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (٣).
[١٩ ـ ٢٨] (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠) وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى
__________________
(١) سورة القصص ، الآية : ٥٦.
(٢) سورة الأعراف ، الآية : ١٤٣.
(٣) سورة الطور ، الآية : ٢١.