لأنه لو لم يكن في ضلال عن طريق التوحيد بعيد عن الفطرة الأصلية بالتوجه إلى الجهة السفلية والتغشي بالغواشي المظلمة الطبيعية لم يقبل وسوسة الشيطان وقبل إلهام الملك ، فالذنب إنما يكون عليه بالاحتجاب عن نور الفطرة واكتساب الجنسية مع الشيطان في الظلمة ، والنهي عن الاختصام ليس المراد به انتهاؤهما بل عدم فائدته والاستماع إليه كأنه قال : لا اختصام مسموع عندي.
وقد ثبت وصح تقديم الوعيد حيث أمكن انتفاعكم به لسلامة الآلات وبقاء الاستعداد ، فلم تنتفعوا به ولم ترفعوا لذلك رأسا حتى ترسخت الهيئات المظلمة في نفوسكم ورانت على قلوبكم وتحقق الحجاب وحق القول بالعذاب ، ف (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) حينئذ لوجوب العذاب حال وقوعه (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ) حيث وهبت الاستعداد وأنبأت على الكمال المناسب له وهديتكم إلى طريق اكتسابه ، بل أنتم الظلامون أنفسكم باكتساب ما ينافيه وإضاعة الاستعداد بوضع النور في الظلمة واستبدل ما يفنى بما يبقى.
[٣٠] (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠))
(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ) أي : يوم يتكثر أهل النار حتى تستبعد الزيادة عليهم ولا تنتقص سعتها بهم ولا يسكن كلبها. وفي الحديث : «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول : هل من مزيد؟! حتى يضع ربّ العزّة فيها قدمه ، فتقول : قط قط بعزتك وكرمك» ، أي : لا يزال الخلق يميلون إلى الطبيعة بالشهوة والحرص والطبيعة باقية على حالها ، جاذبة لما يناسبها ، قابلة لصورها الملاءمة لها ، ملقية لما قبلت إلى أسفل الدركات إلى ما لا يتناهى حتى يصل إليها أثر نور الكمال الوارد على القلب فتتنور به وتنتهي عن فعلها. وعبر عن تشعشع النور الإلهي من القلب على النفس بقدم ربّ العزة القوي على قهرها ومنعها عن فعلها وإجبارها على موافقة القلب ، فتقول : قطني ، قطني.
[٣١ ـ ٣٣] (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣))
(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) أي : جنة الصفات للذين اتقوا صفات النفس بدليل قوله : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) لأن الخشية تختص بتجلي العظمة ولقوله : (غَيْرَ بَعِيدٍ) أي : مكانا غير بعيد لكون جنة الصفات أقرب من جنة الذات في الرتبة دون الظهور ، إذ الذات أقرب في الظهور لأن في عالم الأنوار كل ما كان أبعد في العلوّ والمرتبة من الشيء كان أقرب إليه في الظهور لشدة نوريته ولقوله : (هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ) أي : رجّاع إلى الله بفناء الصفات (حَفِيظٍ) أي : محافظ على صفاء فطرته ونوره الأصلي كي لا يتكدّر بظلمة النفس من اتصف