ولا تتجرّد عما فعلت كالأولى (فِي جَنَّةٍ) من جنان الصفات وحضرة القدس (عالِيَةٍ) رفيعة القدر من علوّ المكانة (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) لأن كلامهم الحكمة والمعرفة والتسبيح والتحميد (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) من عيون مياه علوم المعارف والذوق والكشف والوجدان والتوحيد (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) من مراتب الأسماء الإلهية التي بلغوها بالاتصاف بصفاته رفعت قدرها عن مراتب الجسمانية (وَأَكْوابٌ) من أوصاف الذوات المجرّدة ومحاسنها التي هي ظروف خمور المحبة (مَوْضُوعَةٌ) لثباتها على حالها في محالها (وَنَمارِقُ) من مقاماتهم ومقاعدهم في مراتب الصفات ، فإن لكل صفة من ابتداء تجليها وطوالع أنوارها وكونها حالا إلى كمال الاتصاف بها وكونها ملكا ومقاما مواضع أقدام ومقاعد فإذا استوفى السالك حظه منها بحسب استعداده وبلغ غاية مبلغه حتى تمّ سيره فيها وصارت ملكا له كان مقامه منها نمرقة على تلك الأريكة التي هي موضع ذلك الوصف مع الذات (مَصْفُوفَةٌ) مرتبة (وَزَرابِيُ) من مقامات تجليات الأفعال التي تحت مقامات الصفات كالتوكل تحت الرضا (مَبْثُوثَةٌ) مبسوطة تحتهم.
[١٧ ـ ٢٠] (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠))
(أَفَلا يَنْظُرُونَ) إلى الآثار الظاهرة بالحس فيعتبرون ويعبرون عنها إلى تجلي الوصل إلى تجلي الصفات.
[٢١ ـ ٢٤] (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤))
(فَذَكِّرْ) عسى أن يكون فيهم مستعدّ يتذكر ويتعظ فيترقى في السلم المنخلعة إلى جناب الحق لا من أعرض واحتجب بهذه الآثار عن المؤثر (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) وهو النار الكبرى المشار إليها في سورة (الأعلى) المعدّة للمحجوب المطلق في جميع مراتب الوجود وقوله : (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) اعتراض أي : ما إليك إلا التذكير لا الغلبة والقهر كقوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (١) ، (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) (٢).
[٢٥ ـ ٢٦] (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦))
(إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) أي : خاصة إلينا إيابهم لا إلى غيرنا ، فإنّا نحاسبهم ونعذبهم بالعذاب الأكبر فإن القهر والغلبة لنا لا لك.
__________________
(١) سورة القصص ، الآية : ٥٦.
(٢) سورة ق ، الآية : ٤٥.