(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) أي : عقبة النفس وهواها الحاجبة للقلب بالرياضة والمجاهدة ، وأي عقبة كؤود هي لا يدري كنه مشقتها (فَكُّ رَقَبَةٍ) أي : العقبة التي يجب اقتحامها تخليص رقبة القلب الأسير في قيد هوى النفس وفكها عن أسرها بالتجريد عن الميول الطبيعية بالكلية فإن لم يكن الفك بالكلية بالرياضة وإماتة القوى وقهر النفس فتكلف الفضائل والتزام سلوك طريقها واكتسابها حتى يصير التطبع طباعا وهو معنى قوله : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) إلى قوله : (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) فإن الإطعام خصوصا وقت شدة الاحتياج للمستحق الذي هو وضع في موضعه من باب فضيلة العفة بل أفضل أنواعها والإيمان من فضيلة الحكمة وأشرف أنواعها وأجلها وهو الإيمان العلمي اليقيني والصبر على الشدائد من أعظم أنواع الشجاعة وأخره عن الإيمان لامتناع حصول فضيلة الشجاعة بدون اليقين ، والمرحمة أي : التراحم والتعاطف من أفضل أنواع العدالة فانظر كيف عدد أجناس الفضائل الأربع التي يحصل بها كمال النفس. بدأ بالعفة التي هي أولى الفضائل وعبر عنها بمعظم أنواعها وأخص خصالها الذي هو السخاء ، ثم أورد الإيمان الذي هو الأصل والأساس وجاء بلفظة ثم لبعد مرتبته عن الأولى في الارتفاع والعلوّ وعبر عن الحكمة به لكونه أم سائر مراتبها وأنواعها ثم رتب عليه الصبر لامتناعه بدون اليقين وأخر العدالة التي هي نهايتها واستغنى بذكر المرحمة التي هي صفة الرحمن عن سائر أنواعها كما استغنى بذكر الصبر عن سائر أنواع الشجاعة.
[١٨ ـ ٢٠] (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠))
(أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي : الموصوفون بهذه الفضائل هم السعداء أصحاب اليمن وسكان عالم القدس (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) أي : حجبوا عن هذه الصفات التي هي آيات الله الحقيقية التي تعرف بها ذاته (هُمْ أَصْحابُ) الشؤم وسكان عالم الرجس (عَلَيْهِمْ) تستولي نار الطبيعة الآثارية مطبقة عليهم أبوابها محبوسين فيها ممنوعين عن الروح والمراتب أبد الآبدين ، والله أعلم.